رغم مرور أكثر من يومين على اللحظة التي نطق فيها رئيس هيئة الحكم في ملف الزميل توفيق بوعشرين، بالقرار الاستئنافي الصادم الذي اتخذ في حقه، فإننا لا نستطيع أن نزعم خروجنا من تأثير وقعه الصادم. حتى ونحن نطالع بشكل متكرر الصفحتين المقتضبتين اللتين حرّر فيهما منطوق القرار الاستئنافي، لا نجد ما يمكن أن يحملك على تجرّع مرارته، أو تلمّس ما يمكن أن يحيل على روح القانون فيه أو حتى جسده. لم تشفع أي من مؤشرات الانفراج العام التي التقطناها جميعا في الأسابيع الماضية، ولا التبشير الملكي بإطلاق مرحلة جديدة، ولا نشوة الفرح الجماعي الذي أدخله قرار العفو عن زميلتنا هاجر الريسوني؛ في استعادة المنطق وإحلال الروح الإنسانية مكان النفس الانتقامي الذي ينبعث من هذا الملف. سوف ننتظر نص القرار وحيثياته، علّها تجود بما يحمل على فهم هذا المنطوق القاسي، كما نترك للسادة فقهاء القانون وخبراء التعليق على أحكام القضاء مهمة الإدلاء بالشهادة في ما بصم عليه مستشارو محكمة الاستئناف، لكن ذلك لا يمنع من تسجيل الحقائق التي لن تخلو منها سجلات التاريخ حول هذه القضية.. تاريخ السادة القضاة، الذين بتوا في هذا الملف، ابتدائيا واستئنافيا، وتاريخ الضابطة القضائية، وتاريخ النيابة العامة، وتاريخ السلطة القضائية، وتاريخ الحريات والمؤسسات… سيسجّل التاريخ أن مؤسس هذه الجريدة وكاتب افتتاحياتها اقتيد من داخل مكتبه، مساء يوم الجمعة 23 فبراير 2018، لكي لا يعود إليه، وكأن قدرا ما رتّب صدور الحكمين الابتدائي والاستئنافي في مساءين آخرين من أيام الجمعة. دون تلبّس ولا قرائن مسبقة، جرى توقيف صحافي من داخل مكتبه، واقتياده وإغلاق مقر جريدته بمفاتيح جرى الاحتفاظ بها إلى زوال اليوم الموالي. ودون توثيق ولا محاضر حول ما جرى حجزه في المكتب الذي تدار منه هذه الجريدة، بات الجميع مطالبا بتصديق رواية تقول إن أشرطة فيديو صوّرت وخزّنت ووضّبت ثم ضبطت تتضمن استغلالا جنسيا واستعبادا للبشر… سيسجّل التاريخ أننا ومنذ ذلك اليوم لم نتلق جوابا عن سؤال مباشر وصريح: من صاحب أجهزة التصوير والتسجيل والتخزين؟ من جلب وركّب واستخدم كاميرات قالت لنا سلطاتنا إنها عثرت عليها في مكتب مدير الجريدة؟ كيف يعقل أن جهازا أبيضَ سجّل في المحاضر الأولية على أنه كاميرا، استحال إلى ميكروفون في خبرة لاحقة للدرك الملكي؟ أين أدلة جلب وتركيب واستخدام تلك الأجهزة التقنية؟ وما الدليل العلمي على أن ما قيل لنا إنه مشاهد عُرضت في المحكمة قد صوّرت بالفعل داخل مقرّ هذه الجريدة، في غياب قرائن التلبس والاعتراف؟ سيسجّل التاريخ أن فريقا أمميا محترما ومتمتعا بالمصداقية والصفة القانونية للتدقيق في حالات الاعتقال التعسفي، قد نظر في ملف زميلنا توفيق بوعشرين، وراسل الحكومة المغربية وتلقى جواب سلطاتها، وخلص إلى أن الاعتقال الذي تعرّض له طيلة شهور حاكمته، وقبل صدور حكم قضائي نهائي، كان اعتقالا تعسفيا. وفي مقابل هذا التقرير الأممي، ومطالبته السلطات المغربية بالإفراج الفوري عن زميلنا وتعويضه ومحاسبة المسؤولين عن المساس بحقوقه، جرى الاعتراف بأن حرمانه من الحرية جرى على أساس «خطأ»، تمثل في تسلل كلمة التلبس إلى قرار إحالته. سيسجّل التاريخ أن هذه المحاكمة، التي وصفها دفاع زميلنا بمحاكمة القرن، كشفت وجها قبيحا لم يكن لنا سابق معرفة بوجوده في بلادنا، وهو وجه التشهير عبر التضليل والتزييف، واستغلال إمكانات الدولة، من قنوات تلفزيونية ونيابة عامة، وأبواق جرى زرع بذورها في السنوات القليلة الماضية، لتنتشر كما ينتشر الفطر في أرجاء حديقتنا الإعلامية. سيسجّل التاريخ أسماء وهويات وألقاب هؤلاء الذين يشتركون مع توفيق بوعشرين في حمل بطاقة الصحافة، وإن كان بعضهم لا يميّز بين وظيفة الصحافي في الإخبار والتعليق، وبين مهمة «البيّاع» في الوشاية والتزييف. سيسجّل التاريخ حدوث عملية قتل بطيء لمؤسسة إعلامية أريد لها أن تسير نحو «موت طبيعي» منذ توقيف ومحاكمة وتشويه سمعة مؤسسها. سيسجّل التاريخ أن حبل الخنق الاقتصادي التفّ حول رقبة جريدة لم يثبت يوما أنها أخبرت أو علّقت خارج مصلحة الوطن أو ضدها. سيسجّل التاريخ أن الإعلانات الموجّهة أدارت لها ظهرها، وأن القائمين على صرف المال العام أقصوها من حقها الطبيعي والمشروع في ما يسمح لها به موقعها في سوق الإعلام من موارد تحفظ وجودها وتحمي استقلاليتها. سيسجّل التاريخ أن بعض «رجال الدولة» تطوّعوا لحرمانها حتى من ديونها المستحقة على مؤسساتهم التي تحوّل تراب المغرب إلى ذهب في الأسواق العالمية. سيسجّل التاريخ أن أسرة هذه الجريدة رزئت قبل شهرين من الآن في فرد آخر من أفرادها، وهو الزميلة هاجر الريسوني، التي اعتقلت وأصبحت نهشا لمخلوقات التشهير والتضليل، وحوكمت وأدينت، قبل أن يصدر العفو الملكي معززا ببلاغ منصف أعاد الأمور إلى نصابها، وأوقف آلة الطحن التي بدت كما لو أنها تتعطّش لفرم المزيد من الضحايا. سيسجّل التاريخ أننا احتفينا بهذا العفو وبنينا عليه رجاء أتى قرار محكمة الاستئناف ليطوّح به من جديد. لكنّنا، وكما كنا منذ اليوم الأول في هذه المحنة الطويلة، سنتمسّك برماد هذا الأمل، وسنبقى على إيماننا بهذا الوطن، وكما كانت فرحتنا كبيرة باستقبال زميلتنا هاجر الريسوني الأسبوع الماضي في بوابة السجن بعد العفو الملكي، وشعرنا بفرحة المغرب معنا، سننتظر عفوا ملكيا مماثلا يسجّل في صحف التاريخ، وسنردد مع الأغنية: «الغيم حتما ينجلي.. و الشمس في جوف الظلام ستنتصر…».