كشف «مؤشر الثقة وجودة المؤسسات»، الذي أعده المعهد المغربي لتحليل السياسات وقدّم نتائجه الأولية للرأي العام قبل يومين، خلاصة أساسية، وجب الوقوف عندها مليّا؛ مفادها أن ضعف الثقة في المؤسسات السياسية يعود أساسا إلى ضعف المعرفة والتواصل والشفافية في العلاقة بين المواطن وهذه المؤسسات. أقوى المؤشرات التي تؤكد هذا المنحى، هي تلك التي تكشف وجود خلط كبير لدى المواطنين حول أدوار المؤسسات، والصورة التي تُصنع عنها ولا تجد من يصححها ويعدلها بالشكل المطلوب. على سبيل المثال، كشف المؤشر أن أزيد من 88 في المائة لا يعرفون اسمي رئيسي مجلسي البرلمان؛ النواب والمستشارين، كما أن أزيد من 73 في المائة لا يعرفون اسم أي برلماني، بمن فيهم برلمانيو دائرته الانتخابية، وهو مؤشر قوي على ضعف التواصل وعدم الاهتمام. لكن، حين حاول المعهد فهم الأسباب، وكيف يفسر المواطن هذا الوضع، أظهر التوجه العام المعبر عنه خلال المقابلات التي أجراها المعهد أن موقف المواطن من البرلمان، مثلا، مرتبط بقضية تقاعد البرلمانيين، وهو موقف يكشف أن المواطنين لهم موقف عام من الطبقة السياسية مفاده أنها طبقة تدافع عن مصالحها الخاصة وليس عن مصالح الناس. هناك حاجز صلب بين المواطن والمؤسسات السياسية.. حاجز غياب المعرفة وضعف التواصل وهيمنة تصورات قد تكون خاطئة، لكن النخب السياسية لا تبذل أي جهد لتغييرها، وهو معطى يبدو أنه سبب ضعف الثقة بين الطرفين. والواقع أن الثقة بناء اجتماعي، وليست معطى مسبقا، بمعنى أن الثقة تُبنى بشكل إرادي ومفكر فيه، وأساس البناء هو التواصل والحوار والنقاش العمومي الحر والنزيه، لا النقاش الموجه والمتحكم فيه من فوق، وفي غياب النقاش العمومي الحر تنقص الثقة وتضعف، ما يجعل الباب مفتوحا على جميع الاحتمالات. ويلاحظ أن ضعف الثقة في المؤسسات السياسية توازيه رغبة أكبر في المشاركة في الشأن السياسي العام، وهي الرغبة التي تتجلى في نسبة الثقة التي تحظى بها مؤسسات المجتمع المدني (أزيد من 50 في المائة)، كما تعكسها المؤشرات المتعلقة بحركة مقاطعة ثلاثة منتجات استهلاكية، والتي عرفها المغرب خلال صيف 2018، وتجاوزت نسبة المشاركة فيها 58,3 في المائة، لكنه يبقى رقما مرتفعا مقارنة بمن يشاركون في الاحتجاجات التي تعرفها البلاد، والذين لا تتعدى نسبتهم 35 في المائة. لكن هناك مفارقة على هذا الصعيد، تتعلق بالموقف من الانتخابات المقبلة، حيث في الوقت الذي يُروّج البعض أن الانتخابات المقبلة قد تشهد مقاطعة أوسع شبيهة بحركة مقاطعة صيف 2018، جاءت نتائج المؤشر مخالفة لهذا التوقع، حيث أظهرت أن نسبة المشاركة ستكون مشابهة تقريبا لنسبة المشاركة في آخر انتخابات تشريعية لسنة 2016، أي ما بين 38 و42 في المائة. طبعا هناك مفارقات أخرى أبان عنها المؤشر، وتأتي لتؤكد نتائج استطلاعات دولية ووطنية سابقة، بينها ارتفاع الثقة في مؤسسات الدولة (الجيش، الشرطة، القضاء)، مقابل تدني الثقة في المؤسسات السياسية (الحكومة، البرلمان، الأحزاب)، لكن يمكننا أن نلاحظ مفارقة ثانية أيضا، فالمغاربة يثقون في مؤسسات اجتماعية (الأسرة، التعليم الخاص، الصحة الخاصة…)، لكنهم لا يثقون في التعليم العمومي، ولا في قطاع الصحة العمومي، بل لا يثقون في بعضهم البعض من أول لقاء. لكن، لا يبدو أن الثقة في قطاع التعليم الخاص وقطاع الصحة الخاص معناها وجود رضا ومقبولية، بل لأنهما يوفران الحماية تجاه المستقبل. وبالفعل، يبدو المغاربة قلقين بخصوص المستقبل، إذ إن 69 في المائة لا يثقون في الاتجاه العام الذي تتحرك نحوه البلاد، رغم أن هناك رضا نسبيا عن الوضعية الاقتصادية (40 في المائة)، ويعني ذلك أن هناك درجة عالية من القلق واللايقين تجاه ما هو آت. هكذا يبدو أن مشكل الثقة أساسه غياب الحوار والنقاش العمومي بشأن القضايا التي تشغل المغاربة في يومهم وغدهم، ما يولد غموضا لديهم، يجعلهم يثقون بدرجة أقل في مؤسساتهم وفي مستقبلهم. إن البناء الديمقراطي يحتاج إلى الحوار والنقاش والاختلاف، لأن النقاش هو ما يعلي وعي الناس ويشحذ معارفهم، بدل تركهم عرضة للقلق والوساوس التي يبحثون لها عن أجوبة، لكنهم لا يجدونها، ولو عند كثير من السياسيين وأشباههم.