علاقتنا بالديمقراطية تلخصها حالة رجل يعاني غازات كثيرة في البطن، وكلما توجه إلى المسجد للصلاة، خرجت منه ريح أبطلت صلاته، فينسحب من الصف راجعا إلى الخلف، ثم يعيد الكرة، مرات ومرات، لكن عبثا يفعل. تلك الريح هي ريح السلطوية، أما الرجل فليس سوى الفاعل السياسي الذي لا يتخلى، فحسب، عن شرط التعاقد مع الحكم قبل الوصول إلى الحكومة، بل حتى عندما تأتي لحظة تاريخية لتوسيع صلاحياته، يقوم هو بتضييقها أو التنازل عنها بالقول: «برنامجي هو برنامج جلالة الملك»، أو: «إذا كان المغاربة يبحثون عن رئيس حكومة يصطدم بملكهم، بسبب الصلاحيات وغيرها، فليبحثوا عن شخص آخر، فأنا لا أصلح لهم». لذلك، ها نحن، بعد مضي 65 سنة على الاستقلال، و22 سنة على حكومة الديمقراطيين، و8 سنوات على حكومة الإسلاميين، لم نستطع الوصول إلى ديمقراطية كاملة، بل إننا البلد الوحيد في العالم الذي يتحدث سياسيوه عن حكم وحكومة وتحكم. قد يقول قائل إن المغرب قفز، في 2019، أربع درجات نحو الأعلى في سلم مؤشرات الديمقراطية، الذي أصدرته مؤسسة إيكونوميست أنتليجنس البريطانية قبل أيام، مقارنة بالسنة الفارطة، وإنه احتل الرتبة الثانية عربيا. لكن، لماذا نقارن أنفسنا بدول تقتل وتقطع رعاياها في القنصليات، أو بأخرى يسمي ترامب رئيسها ب«دكتاتوري المفضل»؟ لماذا يراد لنا أن نبقى محكومين بمنطق أن الأعور في بلد العميان ملك، ولا ننظر بالعين السليمة إلى أن المغرب احتل الرتبة 96 عالميا. وإذا كان حكامنا لا يحبون أن نقارن أنفسنا بباقي العالم، فتعالوا نقارن أنفسنا بجوارنا الإفريقي. لقد احتل المغرب الرتبة 15 إفريقيا، وتقدمت علينا 14 دولة مثل جزر موريس، التي تعتبر الديمقراطية الوحيدة الكاملة في إفريقيا، ثم بوتسوانا والرأس الأخضر وجنوب إفريقيا وتونس وغانا وليسوتو وناميبيا والسنغال ومدغشقر ومالاوي وليبيريا وكينيا وتانزانيا. النظام المغربي، حسب إيكونوميست أنتليجنس، نظام هجين، يقترب من الديمقراطية دون أن يفلح في القطع مع السلطوية. وفي الوقت الذي لم نستطع الوصول فيه إلى ديمقراطية كاملة، أو على الأقل إلى ديمقراطية معيبة، مثل تونس، استطاعت الجزائر أن تقفز من نظام سلطوي إلى نظام هجين مثلنا. إن مؤشرات الديمقراطية، حسب منهجية عمل مؤسسة إيكونوميست أنتليجنس، تقيس مدى نزاهة الانتخابات، وأمن الناخبين، وتأثير القوى الخارجية في الحكومة، وقدرة موظفي الخدمة العامة على تنفيذ السياسات، ثم تنقط لكل دولة بناءً على العملية الانتخابية والتعددية، وأداء الحكومة، والمشاركة السياسية، والثقافة السياسية… وبناء على هذه المنهجية، صُنِّف المغرب في الرتبة 96 ضمن 167 دولة. لكن، هناك مؤشرات أخرى لا تقيسها هذه المؤسسة البريطانية، تؤكد تراجع المغرب في مجالات تعتبر أساسية لقياس الديمقراطيات، منها مؤشر الثقة. لقد فقد المغاربة الثقة، بشكل مثير للقلق، في العملية السياسية برمتها، وهذا تؤكده التقارير الرسمية، قبل غيرها، فالتقرير السنوي، الأخير، للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، تكررت فيه عبارة الثقة عدة مرات: «تراجع الثقة في المؤسسات»، «انعدام الثقة في إرادة توطيد دولة القانون»، «شرائح واسعة من المغاربة تفقد الثقة، كما تفقد الأمل في القدرة على بلوغ مستوى عيش أفضل»… وهذا فصَّل فيه، أخيرا، المعهد المغربي لتحليل السياسات، في تقريره السنوي لقياس وتحليل مستوى ثقة المغاربة في مختلف المؤسسات السياسية والاقتصادية، والذي خلص فيه إلى أن 68.7 في المائة من المغاربة لا يثقون في الحكومة، و57.5 في المائة منهم لا يثقون في البرلمان، و49.3 لا يثقون في القضاء، و83.9 في المائة يعتقدون أن الفساد ينتشر بقوة، و69 في المائة لا يثقون في جميع الأحزاب السياسية. ما معنى أن يصمت عبد الرحمان اليوسفي عن كل التدخلات التي عرقلت وأنهت تجربته، ويمنع الصحافة المستقلة التي كانت تنبهه إلى ذلك، ثم يذهب، لاحقا، إلى بروكسيل ويقول إن تجربة التناوب التوافقي لم تفض إلى النتائج المرجوة، أي لم تفض إلى الديمقراطية؟ وما معنى أن يأتي بنكيران –بعدما قال إنه تنازل عن صلاحياته للملك- ليطالب وزراء حزبه بمصارحة الملك بما لا يعجبهم من سياسته؟ وما معنى أن يخرج مرشح لرئاسة البام، بعد سنوات من الإفساد السياسي، معترفا بأن حزبه كانت تربطه خيوط بالمخزن؟ اسمح لي أيها القارئ، أعزك لله، فأنا لا أجد شبيها لهؤلاء السياسيين، الذين أضاعوا فرصا ذهبية للانتقال بالمغرب نحو ديمقراطية كاملة، سوى ذلك الرجل الذي لا يتبع الحمية الموصوفة له لتجاوز ما يبطل صلاته. وقديما قال المغاربة: «لحزاق مكيفكشي من الموت»، والمقصود هنا هو موت السياسة، الذي بات يتحدث عنه الجميع، بعدما أكدت التجارب أن الشيء الوحيد الذي يتقنه السياسيون، عندما يصلون إلى الحكومات، هو المساهمة في إبطال الانتقال نحو الديمقراطية.