بعد تسع سنوات من خروج مسيرات إسقاط الفساد والاستبداد، نمضي بكل برودة دم نحو إنهاء الولاية الحكومية الثانية دون قطع دابر الفساد واجتثاث جذوره التي لا تعني شيئا سوى اختلاط المال بالسياسة. قد يحتفي المتطرفون في التفاؤل منا بما صدر حتى الآن من قوانين تنظيمية، وتفعيل ولو بطيء وجزئي لهندسة مؤسساتية أتى بها دستور 20 فبراير، إلا أننا سنكون أمام مشروع قانون معدل بعض فصول القانون الجنائي، مجمّد في مكتب لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب للعام الرابع على التوالي. هناك إجماع على أن «العقدة» في هذه القصة الحزينة تكمن في التعديل الذي يفترض أن يدخله المشروع على تجريم الإثراء غير المشروع، أي العقاب الذي يفترض أن ينزل بالأشخاص الذين يراكمون ثروات غير منطقية وهم في مواقع المسؤولية أو يشاركون في تدبير الشأن العام. هناك روايتان متناقضتان حول هذه العقدة، تصدران من داخل المؤسسة التشريعية والأغلبية الحكومية. تقول الأولى إن أطرافا نافذة داخل الدولة وفي هوامشها تقف وراء تجميد هذا المشروع، عبر ممارسة نفوذها على فرقاء سياسيين مغلوبين على أمرهم، وتمنع، بالتالي، انطلاق مسطرة التصديق على هذا المشروع، خوفا من سيف التجريم الذي يمكن أن يصل إليها في حال اعتماده. أما الرواية الثانية، فتقول إن الحزب الذي يقود الأغلبية الحكومية، أي العدالة والتنمية، يفتعل هذه الأزمة حول فكرة تجريم الإثراء غير المشروع، وذلك لتحقيق هدفين اثنين؛ الأول هو الظهور في موقف بطولي باعتباره الحزب الذي يصر على محاربة الفساد، والثاني هو إغلاق الباب أمام مناقشة تفاصيل القانون الجنائي، وما تنطوي عليه من مواضيع ترتبط بالحريات الفردية، والتي ستكون شديدة الإحراج للحزب الإسلامي في سنة انتخابية تقترب. في حقيقة الأمر لا تفسّر أي من الروايتين حقيقة هذا «البلوكاج» الذي يعتري المشروع. والروايتان معا تنطويان على قدر من الديماغوجية التي تخاطب لاشعور فئات معينة، سواء في الدولة أو في المجتمع. والإشكال أكبر من أن يكون موضوع تقاطب سياسي أو إيديولوجي بين الأحزاب السياسية، وذلك لاعتبارين اثنين؛ الأول هو أن فكرة محاربة الجمع بين المال والسلطة لا ترتبط بمشروع القانون الجنائي المعروض على البرلمان، بل تعود إلى الشهور الأولى لما بعد اندلاع شرارة الربيع العربي، ومقاومتها بأشكال مختلفة تعود إلى أكثر من ثماني سنوات مضت. أما الاعتبار الثاني، فيتمثل في كون مشروع القانون المعروض على البرلمان حاليا، لا يتطرق أصلا إلى المواضيع الحساسة إيديولوجيا، من حريات فردية وجنسية… لقد كان يفترض أن يقطع دابر الإثراء غير المشروع في الشهور الأولى بعد صدور الدستور الجديد، باعتبار ذلك كان أبرز المطالب والشعارات التي رفعها المتظاهرون في مسيرات حركة 20 فبراير. وطيّب الذكر، عبد السلام أبو درار، الذي بُعث إلى سفارة المغرب ببريطانيا، كان، وهو على رأس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، قد وضع قائمة ب15 فئة من المسؤولين العموميين، ممن ينبغي شملهم بقاعدة تضارب المصالح، منعا لاستغلال المسؤوليات للإثراء بطرق غير مشروعة. جعلت الهيئة، في وثيقة أصدرتها في دجنبر 2012، مستشاري الملك على رأس هذه القائمة، إلى جانب وزراء الحكومة وأعضاء دواوينهم والبرلمانيين وأعضاء المحكمة الدستورية والقضاة ورؤساء هيئات الحكامة والمنتخبين والضباط السامين للجيش والأمن الوطني والدرك الملكي والقوات المساعدة… فماذا حدث؟ الواقع أن الهيئة تحوّلت بعد حين إلى شبح جديد من أشباح البناء المؤسساتي، الذي كان يفترض أن ينفخ فيه دستور 2011 روحا جديدة، قبل أن يسقط جلها في حالة فراغ دامت عدة سنوات لم تجدد فيها التعيينات الخاصة بالهيئات التقريرية لمجالس وهيئات تقنين دستورية. شهد المغرب بعد ذلك حوارا وطنيا لإصلاح منظومة العدالة، أفرز عددا من النتائج، من بينها مسودة مشروع قانون جنائي نشرته وزارة العدل رسميا في مارس 2015، يعاقب، في مادة خاصة بتجريم الإثراء غير المشروع، بالحبس من شهرين إلى سنتين، وغرامة من 5000 إلى 50000 درهم، كل موظف ظهرت عليه علامات الإثراء غير المشروع؟ واجه هذا المشروع ما واجهه حينها وحال دون المصادقة عليه، فاكتفت حكومة بنكيران بمشروع قانون جنائي «يرقع» بعض الفصول، ووقع البلوكاج من جديد بسبب تجريم الإثراء غير المشروع، ليجري التوافق في نهاية الأمر حول صيغة تخلو من العقوبة السجنية، وتضاعف قيمة الغرامة، وأحيل المشروع على البرلمان في يونيو 2016، ليحتجز فيه منذ ذلك الحين. هل نواصل البحث بعد كل هذا عن أسباب البلوكاج في الخلفيات الفكرية والإيديولوجية والحسابات الانتخابية؟ سيكون ذلك من باب دس الرأس في الرمال، والتغافل المقصود عن أن السبب الحقيقي يكمن في مقاومة المستفيدين من منظومة تشرعن الفساد والإثراء غير المشروع. في دراسة محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، والتي نشرناها في هذه الجريدة الأسبوع الماضي، نقرأ كيف أن المغرب يعيد إنتاج أداء «مبني على المحسوبية والإرثية الجديدة، واستخدام السياسة لتحقيق مكاسب مالية»، ويعاني هيمنة «من يحرصون على عبارة: نعم سيدي»، لأنها «تستطيع تمرير مشاريعها وقراراتها بسهولة دون مساءلة أو مراجعة بناءة». وفي دراسة نشرها معهد GIGA الألماني للدراسات العالمية والمجالية قبل سنتين، نقرأ كيف بات الفساد أداة من أدوات الحكم في المغرب، من خلال شراء الولاءات مقابل الامتيازات. وفي كتاب «نخب المملكة»، لصاحبه علي بنحدو، نقرأ أن الانحرافات البنيوية التي يعيشها المغرب «تتأتى من رغبة الهيمنة التي تطبع تصرفات النخب، ورغبتها في تكريس سلوكات خفية وتحتية تعارض السلوكات الديمقراطية». أي أن مكانة الفساد والريع والامتيازات البنيوية في النظام السياسي المغربي ليست سرا ولا كشفا جديدا. وإذا كانت بعض «الأدمغة» والهامات النضالية والسياسية تخدم البلاد من مواقع مسؤولياتها بكثير من التضحية والإيثار، فإن الكثير من الكائنات التي دخلت دائرة السلطة في العقود الماضية، بداعي الخبرة والتقنوقراطية، أو لبيع رصيدها النضالي وما قدمته في الماضي من ثمن داخل السجون وزنازين التعذيب، تتلقى مقابل «خدماتها» بإطلاق يدها لتحصيل الثروة، وهنا يصبح خطاب التخليق ومحاربة الفساد مصدر تشويش. إذا نظرنا إلى الموضوع من هذه الزاوية، سنجد أن هناك من يرى في محاولات التخليق ومنع تضارب المصالح وزجر الإثراء غير المشروع، تهديدا للنظام والاستقرار، وكأني بلسان حالهم ينطق قائلا: «نعم إنه فساد، لكنه فساد مشروع، فدعوه وشأنه».