حينما تدخل الدول الأزمة، أسوأ خيار يمكن أن تواجهها به، هو الغموض والضبابية. لا نعني بالأزمة هنا، أزمة الشرعية، فهذه الأزمة غير موجودة في المغرب، وربما يتمتع المغرب بمستوى عال من الشرعية التي تتطلع بعض الدول إلى بناء جزء منها، وإنما نعني بها شيئين اثنين، عدم وضوح الاتجاه أو وجود حالة من الشك في فعالية الخيارات التي يلجأ إليها، وعدم وجود منطق أو خيط رابط يؤطر الخيارات التي يمكن اللجوء إليها. في الحالة التي نعيشها اليوم، قد نصنف استباقا ضمن خانة العدميين، إذا زعمنا أن المغرب يعيش إحدى الصور التي فصلنا فيها، لكننا هذه المرة، لن نعبأ بهذا التصنيف الجاهز، وسنذهب إلى ما هو أسوأ من حالة الأزمة، أي شكل التعامل معها. فالمشكلة، لا تتوقف عند حدود التماس مؤشرات تكفي لتوصيف الحالة بكونها حالة أزمة، فهذا أمر ليس بالصعب، فالمغرب الذي دشن، أول أمس، أولى المشاورات من أجل إطلاق الورش الانتخابي، لا يعرف أحد فيه، ربما، بما في ذلك النخب العليا، الصورة التي يمكن أن يكون عليها المشهد عند هذا الاستحقاق، فلا الأحزاب المحسوبة على الإدارة، ولا الأحزاب المسحوبة على القوى الديمقراطية والإصلاحية، تملك وضوحا إيديولوجيا حول هذه المحطة، بل لا تملك أي وضوح بخصوص المرحلة وما يتعين فعله، سوى ما كان من انتظار خطاب الدولة وخياراتها. المشكلة هي أكبر من ذلك، وهي أنه بالإضافة إلى مؤشرات الأزمة وحالة الغموض التي تكتنف السياسة، ثمة تحديات تكاد تصل درجة القطعية في مخاطرها، فواقع الجفاف، وما يحتف به من ندرة فرص الشغل المحيطة بالقطاع الفلاحي، فضلا عن الأزمة التي ستحل بالبادية المغربية، وما يمكن أن ينتج عن ندرة المياه، يضاف إلى ذلك إمكانية دخول العالم في أزمة اقتصادية عالمية خطيرة، جراء تداعيات الوباء العالمي كورونا، وما يمكن أن يجره ذلك من انكماش اقتصادي كبير على المستوى الداخلي. كل ذلك، يجعل من الضروري جدا، أن يجري التفكير في مستوى آخر من الأزمة، أي شكل التعاطي معها. نتفهم جدا، أن يكون للدولة خيارات استراتيجية تتعلق بتحلية ماء البحر، والمرور إلى السرعة القصوى لاستجماع مياه الأمطار، ونتفهم، أيضا، حرصها على إعادة اللحمة للعلاقات المغربية الخليجية، ونتفهم قبل ذلك سعيها إلى إخراج عدد من البرامج الاجتماعية. نتفهم كل ذلك، لكن فعالية هذه الخيارات ستبقى محدودة، بالنظر إلى حجم التحديات المقبلة. حينما تدخل الدولة في الأزمات، هناك صنفان من النخب لا يمكن الاعتماد عليهما بالمطلق، رجال أعمال أعيان اقتربوا من مربع السلطة، واغتنوا بتفعيل معادلة التجارة بالدولة مع الدولة لفائدتهم الخاصة. والصنف الآخر، هم بعض السياسيين المرتزقة الذين استغلوا حاجة السلطة لمدافعة عنفوان القوى الإصلاحية لتقديم خدماتهم للسلطة، مقابل مراكمة ثروات وضمان حصانة من السلطة. هذان الصنفان، لا يمكن الاعتماد عليهما في مواجهة أي أزمة تمر منها الدولة، وهؤلاء يكونون دائما في ركاب الذين يواجهون أي إجراء اضطرت إليه الدولة للخروج من الأزمة، وغالبا ما يفكرون في ذواتهم، أي في ثرواتهم. وهؤلاء من الضروري أن يدفعوا ثمن هذه الأزمة. لا نفكر في هؤلاء، وإنما أفكر هنا في طرفين دائما ما يكونان هما الملجأ والجواب للخروج من الأزمة، الدولة التي يهمها الاستمرار، لأن شرعيتها تقوم على تأبيد حالها، بل إن شرعيتها قامت في الأصل عبر الالتحام بالإرادة الشعبية، ثم القوى الديمقراطية التي تبني أطروحتها الإصلاحية على قاعدة الشرعية ودعم الاستقرار. الدولة تعرف طريق خروجها من الأزمة، إذ لا يمكن تصور ذلك دون انعطاف لطبيعة هويتها، واصطفافاتها الحيوية والتاريخية والاستراتيجية، الدولة ولدت من الشعب، وخروجها من الأزمة لا يتصور من خارج هذه البوابة، أما النخب السياسية الإصلاحية، فأكبر خطر يمكن أن يصيبها أن تفقد وضوحها الإيديولوجي زمن الأزمة، ولا تعرف ما تفعل وما يفعل بها، فالدولة في ظل الأزمات لا تريد أحزابا تنتظر ما تقوله لتقوم بترديده، وإنما تنتظر منها أن تقوم في هذه اللحظة العصيبة، بثقافة الواجب، وتوضيح الأولويات بالنسبة إلى الشعب، التخفيف من ثقافة الحقوق والانعطاف للغة الواجب ريثما تمر العاصفة، ونصيحة الدولة وإعادة نصيحتها بأنه لا خيار للخروج من الأزمة سوى بالعودة للديمقراطية والمصالحة في أبعد صورها. لقد قدمت تداعيات حالة واحدة معلن عنها للإصابة بفيروس كورونا الصورة، التي يتصرف بها قطاع عريض من المواطنين، وأظهرت لغة بيان وزارة الداخلية الصارمة مخاطر الانفلات غير الواعي، لكن أحدا من النخب السياسية، لم يقرأ بشكل جيد هذه الإشارات، ولا هذه النخب التي لاتزال تركب لغة الإنشاء، بل لغة الخشب، في الوقت الذي يتطلب فيه الأمر وضع اليد على القلوب، والنهوض بشكل جدي لتحديد الواجب الذي يتعين القيام به، للخروج من الأزمة.