فضلا عن المجاعة، واجه المغاربة وباء الطاعون مرات عديدة في تاريخهم، وخلال القرنين 18 و19، ضرب هذا الوباء البلاد أكثر من مرة. ومن أشهره طاعون 1742-1744 الذي ظهر بعد اضطرابات جوية عنيفة. إذ يروي المؤرخون أن ريحا هوجاء هبت عشية 12 شتنبر 1742، انهارت بسببها دور وأشجار عظيمة، ثم انهالت السماء بأمطار طوفانية مسترسلة نحو أربعين يوما، ففاضت أودية، واجتاح سيل عظيم مدينة فاس، وتهدمت بسببه دور كثيرة، كما جرف وادي سبو أشجار الأرز العظيمة. وينقل الأمين البزاز عن المؤرخ ابن الحاج قوله: «وفي هذا الوقت، تفشى الطاعون بفاس وزرهون ومكناسة وأحواز ذلك، وعم جميع المغرب». لقد ظهر الوباء بالمغرب في مارس 1742، قادما من الجزائر مع التجار، وتجلى في أن المصابين كانوا يعانون انحرافا صحيا كبيرا، ثم تأخذهم القشعريرة، والدوران، فيتقيؤون ثم يموتون. أما إذا تمكنوا من اجتياز هذه المرحلة الأولى، فيصابون بحمى مرتفعة، ثم انهيار تام، وبعطش شديد لا ينفع معه شيء، ثم بتصلب في الساقين، وبالهذيان، ثم تظهر عليهم بعد ذلك الدمامل في الإبط، وأحيانا في العنق والقفا، ما يودي بالمريض في الغالب. وإذا كان التجار هم من أدخل الطاعون من الجزائر إلى المغرب، فإن وحدات المقاتلين هي التي لعبت أهم دور في نشره، على طول محاور تنقلاتها، وبعد عودتهم إلى مواطنهم الأصلية. ومما نقله المؤرخون أن مدنا خلت من سكانها بسبب الموت، وقد وصف محمد الضعيف هذا الوضع بقوله: «كثر الموت، وضاعت من الخلائق ما لا يحصى عددها، حتى قيل مات من أهل القصر (الكبير) 14000 بالطاعون». ومما ينقله المؤرخون أن طاعون 1742-1744، بعد موجة فوران ربيعية، دخل خلال فصل الصيف في طور الانحسار مع ارتفاع درجة الحرارة، إلا أنه عاد للظهور بشكل أشد فتكا وتدميرا في بداية فصل الشتاء، حيث إن مراسلة أوردها المؤرخ البزاز تفيد بأنه كان يموت في تطوان 5 إلى 6 أفراد في اليوم، فيما كان يموت في مكناس 50 إلى 60 في اليوم، ثم ارتفع العدد إلى 100 وحتى إلى 150 في اليوم. لكن الوباء كان أخف في سلاوالرباط، إذ لم يرتفع عدد الضحايا إلى 25 و30 ضحية في اليوم إلا في حالات استثنائية، في حين كان المألوف هو 12 إلى 18 ضحية فقط. لم يكد طاعون 1742-1744 يُنسى، حتى عاد الطاعون مرة أخرى ليضرب بقوة في جنوب المغرب، على عكس الطواعين السابقة التي كانت تبدأ عادة من مدن الشمال. ففي منتصف 1747، وفق المختار السوسي في كتابه «المعسول»، أن شخصية ماتت بالطاعون في سوس ذلك العام، قبل أن يمتد الوباء في السنة التالية إلى مراكش وتافيلالت، ثم منهما إلى عامة بلاد المغرب الأقصى، وبقي بين مد وجزر إلى غاية 1751، حيث انتشر الوباء في مدينتي الرباطوسلا، ويقال إن سلا كانت تفقد يوميا نحو 60 شخصا بسبب الطاعون. وفي 1750، حلّ الجفاف، ما دفع أهل فاس إلى إحياء صلاة الاستسقاء أكثر من 16 مرة بين يناير ومارس، وقد نزلت الأمطار، لكن في أبريل، الذي تميز بتساقطات طوفانية أغرقت الأرض وأهلكت الزرع والبهائم، ما تسبب في ارتفاع الأسعار، ولجأ الفقراء إلى طعام الجوع «نبات إيرني»، قبل أن يلحق الطاعون ليفتك بالجميع. ثم ضرب الطاعون مرة ثالثة في القرن الثامن عشر بين سنتي 1798 و1800، على إثر انتشار الوباء نفسه في الجزائر. ففي ظل انتشار هذا الوباء على الحدود الشرقية، حاول السلطان رفقة التجار والهيئة القنصلية بطنجة حماية المغرب من الوباء، حتى إن السلطان محمد بن عبد الله أقام حزاما عسكريا على الحدود الشرقية، فيما شرعت الهيئة القنصلية في طنجة في اتخاذ إجراءات وقائية في الموانئ، وفرض حجر صحي على كل ما يرد من الجزائر طيلة خمسة أشهر من سنة 1793. وفي يوليوز من عام 1797، حصل القناصلة الأوربيون من السلطان على ظهير خاص ينص على فرض الحجز الصحي على السفن الآتية من وهران، ومنع جميع المواصلات البرية على الحدود الشرقية. وبالفعل، استطاع المغرب منع وصول الطاعون إلى أرضه، لكن ابتداء من 1798 ظهر الوباء في فاس، في صورة رهيبة، تبين بعد فحص وتدقيق أنه أصاب الحجاج الذين عادوا إلى المغرب عبر الطريق البري وليس البحري، انطلاقا من تلمسان.