ثلاث أسئلة مع: الجيلالي العدناني (أستاذ التاريخ المعاصر) ماذا تمثل الأوبئة والأمراض الفتاكة في الذاكرة المغربية عبر التاريخ؟ تمثل الأوبئة والأمراض، وكذا المجاعات، أسبابا للصمت والنسيان، وفي الوقت نفسه للتذكر والتأريخ. فما الذي تحكم في النسيان والذاكرة؟ إنها إرادة النسيان والتذكر التي قد تخلط بعض الأوراق والمفاهيم، لتتحول المفاهيم إلى وسيلة للشكوى. تمثل كلمة جائحة pandémie نموذجا حيا، حيث إن الكلمة أصبحت تستعمل معنى لمرض أو مصير معين يمكن أن يصيب شخصا ما. فمن «ضربته» الجائحة هو شخص ضائع وتائه يعيش الفقر والبؤس. هذا الأمر يخفي معرفة الأوائل والأواخر بأن الجائحة هي أقصى درجة انتشار الوباء كما تستعمل في الأيام الأخيرة. وما يمكن قوله هو أن الذاكرة الفردية أو الجماعية، وربما الكونية، تتأرجح الآن بين الإرادة الإنسانية والعناية الإلهية، كما حصل في السابق. ومع ذلك، فإن أكبر تحول وقع حاليا هو أننا لم نعد نعتمد على مصادر قليلة أو متراكمة، بل إننا أصبحنا أمام كم هائل من الشهادات حول الأمراض والأوبئة التي يقدمها الضحايا والشهود المباشرون، وتصبح التغطية الصحية مرفوقة أو مسبوقة بتغطية إعلامية. كيف تعاملت السلطة في المغرب مع الأوبئة التي ضربت البلاد عبر التاريخ؟ وجب التمييز بين استعمالات مختلفة ومتضاربة مع الوباء. غالبا ما اعتبر الوباء عقابا إلهيا، لذلك، لم يتناول الموضوع سوى قلة من العلماء، لأن الأمر يدخل في إطار الإرادة أو المشيئة الإلهية. كما أن الحكام والسلاطين غالبا ما تعاملوا مع الموضوع بعقلانية، خاصة ما يخص التموين والضرب على أيدي المضاربين، أو بتوزيع مواد غذائية لتفادي الانهيار الديموغرافي، وبالتالي، الاجتماعي والسياسي. ذلك أن عقلانية السلاطين كانت مسنودة بمعتقدات تؤكد أن بركة السلطان تعد سدا منيعا تجاه الأوبئة والمجاعات على الخصوص. بل إن كلمة مخزن في المغرب تدل، في ما تدل عليه، على التوفر على المؤن والخيرات التي قد تستعمل في زمن المسغبة. لا يمكننا الحديث عن كل الإجراءات المتخذة من لدن الحكام، لكن مهمة المحتسب وبناء البيمارستانات والأوقاف يمكنها أن تساعدنا على القول إن السلطات كانت على وعي ببعض المشاكل الناجمة عن الكوارث، خاصة ما يهم الدفن والأملاك والميراث. كما أن سلطة المخزن قد تحارب الزيادة في الأسعار بمنع وسق القمح والتصدير، أو بجلبه من مناطق أو حتى دول أخرى. وبالنظر إلى الإجراءات المتبعة حاليا، فالمعروف أن المسلمين ومنذ العهود الأولى قد «حرموا» الخروج من البلاد الموبوءة، كما اتخذوا إجراءات الحجر الصحي على مناطق لم يصل إليها الوباء بعد، أو قاموا بمنع الحج. والمعروف أن الحجر الصحي سيعاد فرضه من لدن القوى الأوربية بعد تدخلها في أمور الحج انطلاقا من جدة والجزائر، أو من خلال موانئ الحجر الصحي بميناءي طنجة والصويرة. كما يجب ألا ننسى أن بعض الجوائح قد عصفت بقرى ومدن، وقلصت إلى أكثر من النصف ساكنة المغرب التي كانت تتجدد بفعل الخزان البشري للمناطق الجبلية والصحراوية. هل من تطور حصل على مر التاريخ في تعاطي المغاربة مع الأوبئة والأمراض الفتاكة؟ للجواب عن هذا السؤال يمكن التساؤل عن كيفية تسرب الاحتلال الفرنسي إلى المجتمع بفضل الطب والشائعات المرتبطة بالداء والترياق. قلت في السابق إن تجمع الحجاج، وما ينتج عنه من كوارث أثناء انتشار الوباء، قد أسهم في اتخاذ سياسة صحية تحت رعاية الدول الأوربية. أنا لا أريد أن أرسم تاريخ الصحة بالمغرب، لكني أريد أن أقول إن المغاربة قد تحرروا من مقولة «المرض الخايب»، وأصبحوا يسمونه باسمه، لكنهم مازالوا ينهلون من مخزون التاريخ والذاكرة ليستعملوه في إطار العنف الرمزي: «الله يعطيك بوكليب أو الجائحة». تعود كلمة بوكليب إلى ما قبل القرن السابع عشر، كما جاء في كتاب «المقصد الأحمد» لأحمد بن معن، والسؤال المطروح: هل كان القدامى يدعون على بعضهم البعض بمرض يعرفونه جيدا؟ لا أظن، لأن الإنسان المغربي الحالي يستعمل كلمات لا يعرف مضمونها. وأريد أن أختم بأننا في المغرب تحكمنا عوالم افتراضية تبعدنا عن الواقع. ذلك أن انتشار الوباء هو أمر يهم أوربا والصين، لأننا لم نر بعد ضحايا في شوارعنا، حيث إن ما نراه في شبكات التواصل يدخل ضمن العالم الافتراضي. فيكفي تحليل خطاب شبكة التواصل للوصول إلى هده الحقيقة الصادمة؛ إن معاناة المغاربة مع الأوبئة طوال قرون لم تساعدنا في تبني أشكال أخرى من الإيمان بالمختبر واللامرئي، أننا لا نؤمن سوى بما هو محسوس وملموس، وهذا نوع غريب من الإيمان. وفي الختام، يمكن القول إن زمن الخيام كان يدفع الناس إلى الهرب من الموبوء، ومع ازدياد التمدن وجب وضع حد أو حدود إزاء الوباء بواسطة البيوت.