كنت أرجو في هذا الظرف أن يُدعى الدكتور محمد الأمين البزاز إلى حلقة في الإعلام العمومي لاستعراض خبرة الدولة المغربية في مواجهة الأوبئة، فالرجل درس تجربة قرنين من الزمن اجتاحت فيه الأوبئة المغرب بشكل غير مسبوق، وكتب أطروحته في تاريخ الأوبئة والمجاعات، وحظيت بإعجاب أحد أكبر المؤرخين الأستاذ جرمان عياش. ليس القصد من هذا الرجاء أن يتعرف المغاربة على المحن التي مر بها أسلافهم، في قرنين من الزمن: الثامن عشر والتاسع عشر، فهذا جزء من الماضي، والاشتغال بالماضي عن الحاضر ماضوية لا يقبلها من يفكر في مستقبل السياسة في بلده. ما يهمني بشكل خاص، أن ألفت الانتباه إلى الاستراتيجيات التي اعتمدها الأسلاف في مواجهة هذه التحديات، وفعل الدولة العلوية وخبرتها والتراكم الذي حصّلته في مواجهة هذه الأزمات العاصفة. مؤكد أن السياقات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى السياسية أضحت لا تُقارن بما كان عليه الماضي، ومؤكد، أيضا، أن وباء كورونا ليس بخطورة مرض الطاعون أو داء الكوليرا في تلك الحقب الماضية، ومؤكد، كذلك، أن المغرب كان يعرف هشاشة اجتماعية أكبر من الهشاشة التي يعرفها اليوم، والإمكانات التي يوفرها النظام الصحي على محدوديتها لا تُقارن بما كان عليه المغرب أمس. لا تهمني هذه الفروق، فالتفاصيل التي تسجل بونا كبيرا بين الماضي والحالي، تفترض وجود أشكال تعاطي مختلفة، لكن واقع الحال، يؤكد العكس، فالاستراتيجيات بقيت ثابتة، لم يتغير منها شيء. لندخل في تفاصيل الخبرة المغربية، كما ارتسمت في التاريخ، وكما تجري على أرض الواقع: قرار مركزي قوي، وضبط حركية المجتمع، وحد من حرية التنقل دخولا وخروجا من وإلى منطقة الوباء، ومواجهة المحتكرين الذين يتسببون في نقص المؤونة واضطراب حركية السوق، وتحمل الدولة مسؤولية تقديم المساعدات والتحكم في تدبير اقتصاد الندرة، وتحريك فعالية القبائل والعلماء لحفز الناس على التطوع والتضامن، واستثمار الإمكان الديني في ذلك، وفي إشاعة الطمأنينة والهدوء والرضا بقدر الله، والرجاء في فرجه، والإفتاء بتقييد الحرية في مكان التعبد خوفا من العدوى. لنتأمل ما تغير بين الأمس واليوم: مواجهة الأخبار الزائفة، والتواصل الكثيف عبر وسائل الإعلام لضبط حركية المجتمع وإلزامه بالتوجيهات الصحية، وضمان استمرارية التعليم عن بعد، ووضع آليات لحفز المقاولة وتعويض المتضررين من القطاع المهيكل أو غير المهيكل. واضح أن المتغير مرتبط بشيئين: بما أتاحته ثورة الاتصالات، فهي التي سمحت بظهور آفة الاختلاق ونشر الأخبار التي قد تشوش وتهدد سكينة المجتمع وطمأنينته، وهي التي تسمح بانسياب التوجيه الصحي، ولو باستعمال نظرية الرصاصة والقصف الإعلامي، وهي التي سمحت بالتعليم عن بعد رغم عدم الجاهزية له. وأيضا، بتحولات الاقتصاد وبنيته، ودور الدولة فيه. لنتأمل مرة أخرى، أن الدولة المغربية، أقصد العلوية، في الماضي كما في الحاضر، كانت تتصرف ضمن إكراهات مالية ضيقة، فالواقع أمس، كان محكوما بالتسرب الأوروبي، واستنزافه لموازنة المغرب المالية من خلال التحكم في الموانئ، والواقع اليوم، يشير إلى محدودية الإمكانات المالية في ظرفية اقتصادية محكومة بسنة جفاف وأزمة اقتصادية بسبب آثار كورونا محليا ودوليا. الواقع، عينه، والخبرة المغربية عينها، ولا مندوحة عن ثقافة التضامن، ووحدة الدولة والشعب، والحديث بلغة الحقيقة، ونسيان الماضي. أمس التجربة، كانت هناك حركات حاولت توظيف الأوبئة لمطامح سياسية، حركات مهدوية تبشر بالخلاص، لكن الذي قضى عليها ليس فقط، حذر الدولة وانتباهها، ولكن أيضا ممانعة المجتمع، الذي أبانت الخبرة التاريخية أنه يصعب اختراقه زمن الأزمات، إن انعطفت الدولة للمصالحة معه، وألزمت الجميع بالتضامن، لاسيما الأغنياء الذين صنعوا ثرواتهم بالقرب من سلطتها، وضربت بيد من حديد من يتاجر في المأساة من المضاربين والمحتكرين. لقد أعلنت الدولة لحد الساعة عن نواياها في كل شيء، والإجراءات التي تنزل تباعا تصدق هذه النوايا، والمجتمع بدأ يشعر بأن لغة واحدة يتقاسمها الكبار والصغار، ومن هم في الفوق ومن هم في التحت. والحال، أن هذه السياسة تصلح لمواجهة أزمة اليوم، وهي لاتزال في بدايتها، وربما قد تطول قليلا أو كثيرا، وقد تكون لها تداعيات متحملة أو غير متحملة. سؤال الحاضر، بل سؤال المستقبل، هو ما الذي تبقى من خبرة أمس، لم يتم لحد الآن تشغيلها، أو ربما سيأتي أوانها بعد؟ الحكمة والتبصر الذي عُرفت به الدولة المغربية، تجعلها تدرك أن المصالحة مركزية لمواجهة سؤال الحاضر وسؤال المستقبل، ولإعادة بناء الإجماع الصلب الذي يمكن به أن نواجه تداعيات هذا الوباء. نتصور أن إطلاق معتقلي حراك الريف، والعفو عن توفيق بوعشرين وحميد المهداوي وكل من اعتقل على خلفية الرأي، سيعزز الخبرة المغربية، وسيمكن من توفير قاعدة أخرى للمصالحة بين الدولة والمجتمع، واستثمار ذلك في مواجهة التحديات المقبلة. 6