يرفض المؤرخون كلمة «لو» في التاريخ، فالتاريخ هو عبارة عن وقائع حدثت بأسبابها ومسبباتها، لكل فاعل فيها مبرراته وخلفياته ورهاناته أيضا، لكن في السياسة كلمة «لو» مهمة، ليس لأنها تعيد شدنا إلى الماضي، أو تفتح المجال للعِتاب الذي لا فائدة من ورائه، ولكن لأنها تفتح الباب للمستقبل، لأخذ العبرة، للبناء على أساس صحيح. لا أريد أبدا أن أثبط العزائم، ولا أن أبخس المجهود الذي تقوم به الدولة في مواجهة هذا الوباء الخطير الذي عجزت دول عظمى عن الاستجابة للتحدي الذي يمثله، ولكني فقط، أُلفت الانتباه إلى ظهور مكمن العطب في مجتمعنا. ففي الوقت الذي تعرضت فيه بلادنا لهذا الابتلاء، ظهرت بوضوح مراكز الهشاشة، وبرزت معالم الاختلال في نظامنا الاجتماعي والاقتصادي، وكشفت مجهودات الدولة حجم الاستثمار الذي ينبغي بذله من أجل مواجهة هذه الهشاشة الكبيرة التي تكشف الهوة الصارخة بين من هم «فوق» ومن هم «تحت» السلم الاجتماعي. ثمة يقين لا يخطئ، بأننا أضعنا اللحظة التي كان ينبغي فيها أن نحدد معايير الهشاشة الاجتماعية، وأن نحصر تقنيا واجتماعيا الفئة التي كان يُطلب من الدولة تقديم الدعم إليها، فقد أغرق البعض المغرب في هواجس وتوجسات سياسية، ومن خوف بعضنا من بعض، حتى أضعنا تلكم اللحظة التاريخية، ووجدنا أنفسنا اليوم، مع تحدي وباء كورونا أما الخواء. صحيح أن بطاقة «راميد» أعطت بصيص أمل، ومؤشر أول على حصر فئة مخصوصة من أجل تقديم الدعم إليها، وصحيح، أيضا، أن المعايير التي وضعت لدعم الأرامل أصبحت مرجعا مهما لتقديم الدعم للفئات المتضررة من هذا الوباء. البعض يفتخر بهذه الإنجازات الكبيرة التي تدل حقيقة على مركزية ثقافة التضامن في المغرب، وعلى أن للمغرب، أيضا، تجربته التي يمكن أن يتقاسمها مع العالم، لكن، ثمة صعوبات كثيرة تكتنف عمليات حصر الفئات الأخرى الهشة، من التي لا تتوفر على بطاقة»راميد»، وليست لها أي حماية اجتماعية أو صحية. أطرح سؤال «لو» في السياسة، ولنفترض أن لحظة بنكيران بجرأتها مضت، وتقرر معها دعم الفئات الهشة إلى جانب الأرامل والمطلقات، وتحقق قدر من التوازن الاجتماعي، وبدأت الفئات الهشة تأخذ الدعم من الدولة ولو في حده الأدنى، هل كانت الدولة اليوم تعاني المعضلة المزدوجة: معضلة حصر هذه الفئات، ثم معضلة البحث عن موارد لدعمها؟ لا أريد هنا قسرا استدعاء لحظة بنكيران، فهناك جهات تنزعج من هذه السيرة، لكن أريد فقط، أن ألتقط منها العبرة والدرس، فبنكيران أو غيره مجرد شخص، سيمضي كما مضى من كان قبله، وإن كتب الله له الرجوع فسيرجع، فكثيرة هي الأفكار التي يتحرق بعض السياسيين المخلصين من أجل إنتاجها، ويرون فيها مصلحة للبلد، وربما تكون لهم نظرة بعيدة في ذلك، لكنها لحسابات سياسية، أو توجسات، أو ربما لوشايات وشكاوى من تحت الطاولة، تحذف من الأجندة، ثم يدفع المغرب ثمن التخلي عنها لحظتها أو لاحقا. لا أريد مرة أخرى أن أستدعي الأمثلة، فقد تبنت الدولة عقب حَراك الريف كل البرامج الاجتماعية التي قاومت حكومة بنكيران من أجل تمريرها، بشكل متدرج، وبتوافق، وبشراكة، وبالحد الأدنى، وما إلى ذلك من العبارات التي تلطف الأجواء وتقتل السياسي والانتخابي المفترض في مثل هذه المشاريع، فلما جاءت لحظة الشدة، دفعت الدولة دفعا إلى النزول بثقلها، ليس فقط، لتمرير هذه البرامج الاجتماعية، بل لتفعيلها وتنسيقها وضمان الالتقائية فيها، والتأكد من وصول ثمرتها إلى المستفيدين منها. نتأمل الحادثتين، مبادرة الدولة بعد حراك الريف، ومبادرتها اليوم بعد وباء كورونا، وندرك وعيها العميق بالمصلحة وراء المشاريع الاجتماعية الوطنية التي كانت تنظر للمدى البعيد وتستشرف مقومات الاستقرار في هذا البلد، وقوة تجربته وصلابتها إن قامت على نموذج مجتمعي متوازن، يحظى فيه «من هم تحت» بالحد الأدنى من المعاش والكرامة. يتصرف الملك اليوم بحكمة كبيرة، ويعطي الدروس للعديد من الدول: دروس الاستباق، والاستشراف المبكر، وحفز المجتمع والدولة على التضامن، وقتل الأثرة السياسية، والشفافية مع العالم، وأولوية الحياة على الاقتصاد. لكن ما هو جدير بالتأمل في حكمة الملك، هو إعادته الاعتبار، لرؤية استراتيجية لديمومة الاستقرار في المغرب، رؤية تتأسس على التوازن الاجتماعي، وأن يأخذ «من هم تحت» بعض حقهم من الإمكانيات التي لدى الدولة، حتى يشعروا أنهم يعيشون بكرامة في هذا البلد. لا يهم أكانت هذه الرؤية من أفكار بنكيران أم غيره، لكن ما يهم، أن الدولة اليوم تستعيد المبادرة، وتبصم بالعشرة على صحة هذه الرؤية وبُعدها الاستراتيجي.