يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها). نظام عالمي على أنقاض الخلافة من الصليبيين إلى التتار بيد أن عودة القدس إلى كنف المسلمين لم توقف الحروب الصليبية، فقد استمرت في أماكن متعددة، إلى أن انتهت رسميا في العصور الوسطى بسقوط غرناطة عام 1492. وطيلة الفترة من موقعة حطين إلى سقوط غرناطة، ظل الصليبيون يتحرشون بالعالم الإسلامي، ويناوشون المسلمين في الشام، وعندما ولد أحمد تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في العام 661 للهجرة، الموافق 1263 للميلاد، كان الصليبيون لايزالون يحاصرون الشام، وكأي مثقف في زمنه، لا بد أنه قرأ ماضيه وسمع عن الكثير مما جرى قبله وتابع ما يدور حواليه. لكن الخطر الجديد الذي أخذ يطل برأسه في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي، السابع للهجرة، كان يتمثل في التتار، وهم شرذمة من القبائل الرحالة ذوي القامات القصيرة التي كانت تعيش على النهب والصيد والغزو في آسيا الصغرى. ويعد بعض المؤرخين التتار جزءا من الأتراك، لأنهم كانوا يتكلمون اللغة التركية القديمة، وعاشوا قبائل متفرقة بعدما كان تيمورلنك، القائد الأوزبكي مؤسس الأسرة التيمورية، قد طردهم إلى أواسط آسيا في حملاته العسكرية، ثم أنزلهم السلطان العثماني بايزيد الثاني بعض المناطق مثل خوارزم، لكنهم عادوا بعد ذلك إلى آسيا الصغرى. لم يكن للتتار تاريخ قبل ظهورهم المفاجئ على سطحه في نهاية القرن الثاني عشر، فبسبب حالة الشتات والتمزق وغياب عناصر الوحدة بين أفراد القبائل والقوميات فيهم، كان من الصعب أن يلتقوا على كلمة سواء. لكن جنكيز خان، الذي يسميه ابن الأثير «تيموجين»، استطاع خلال الفترة المذكورة توحيد صفوف تلك القبائل المتناثرة وصهرها في بوتقة واحدة. ولأن هذا القائد العسكري كان ينحدر من منغوليا، فقد غلبت تسمية المغول على التتار. وكان هؤلاء أقواما متوحشين بلا دين ولا أخلاق، وهو ما يفسر الجرائم الوحشية التي كانوا يقومون بها في غزوهم للشعوب الأخرى، حيث كانوا لا يترددون في قتل النساء والأطفال والعجزة وبقر بطون الحوامل وحرق الممتلكات. فقد كانوا، كما يقول ابن العماد الدمشقي، «يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرمون شيئا»، وكانوا يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير، ويجامعون النساء بشكل مختلط، فلا يعرف الولد منهم أباه. ويصفهم القزويني بطريقة بارعة فيقول في حديثه عن بلاد التتار: «هم جيل عظيم من الترك سكان شرقي الإقليم السادس، أشبه شيء بالسباع في قسوة القلب وفظاظة الخلق وصلابة البدن وغلظ الطبع وحبهم الخصومات وسفكهم الدماء وتعذيب الحيوان». ويزعم بعض المؤرخين أنه كان لديهم دين هو الشامانية، وأنهم كانوا يعبدون إلها عظيما قادرا، لكنهم لا يقدمون إليه القرابين، وبعضهم يعبد آلهة متعددة. غير أن الشامانية ليست دينا بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هي مجرد طقوس ترتكز على الجذبة الروحية والانخطاف ولها طابع علاجي نفسي. وتعني كلمة «شامان» الساحر. وفي حقبة الغزو المغولي إبان نهاية القرن الثاني عشر، كان الشامان الأكبر يسمى «بيكي»، ويحتمل أن عبارة «باي»، التي تعني السيد، مشتقة من تلك الكلمة. ونظرا إلى غياب القانون لديهم وعدم وجود شريعة دينية كما لدى الأمم الأخرى، وضع لهم جنكيز خان كتابا دينيا سماه «اليساق» أو «الياسة»، وذلك في حفل كبير، جرى فيه تغيير اسمه تيموجين إلى جنكيز خان، أي الملك خان، وأعلن نفسه رئيسا لاتحاد القبائل ولقب ب«غضب الله». وفي ذلك الكتاب وضع جنكيز خان قائمة بالأحكام والعقوبات التي يتعين على كل واحد اتباعها والامتثال لها. وينقل المقريزي، نقلا عن أحمد بن البرهان الذي اطلع على نسخة من هذا الكتاب في المدرسة المستنصرية ببغداد، أنه كان ينص على قتل الزاني، وقتل كل من تعمد الكذب أو السحر أو تجسس على غيره، وكل من بال على الماء أو على الرماد قتل، ومن أعطى بضاعة فخسر فيها للمرة الثالثة قتل، ومن أطعم أسيرا أو قام بكسوته بغير إذن قومه قتل، ومن وجد عبدا هاربا أو أسيرا ولم يرده إلى من كان في يده قتل. ومن تعاليمه أيضا أن من أكل من ذبائح المسلمين قتل، ومن فر في الحرب قتل، ومن جملة تعاليمه تعظيم جميع الملل دون تعصب لأي واحدة منها. ويبدو أن هذا الكتاب أصبح بمثابة شريعة للتتار يجري الاحتكام إليها، ويُفرض على الحاكم اتباعها، إذ يروي لنا الرحالة المغربي ابن بطوطة أنه عندما دخل الهند بلغه أن السلطان علاء الدين طرمشيرين، أحد حكام الصين، خُلع وُصِّب خليفة آخر بدله لأنه «خالف أحكام جدهم تنكيز اللعين الذي خرب بلاد الإسلام، وكان تنكيز ألف كتابا في أحكامه يسمى عندهم اليساق، وعندهم أنه من خالف أحكام هذا الكتاب فخلعه واجب، ومن جملة أحكامه أنهم يجتمعون يوما في السنة يسمونه الطوى، ومعناه يوم الضيافة، ويأتي أولاد تنكيز والأمراء من أطراف البلاد، ويحضر الخواتين وكبار الأجناد، وإن كان سلطانهم قد غير شيئا من تلك الأحكام يقوم إليه كبراؤهم فيقولون له: غيرت كذا وغيرت كذا وفعلت كذا، وقد وجب خلعك، ويأخذون بيده ويقيمونه عن سرير الملك، ويقعدون غيره من أبناء تنكيز. وإن كان أحد الأمراء الكبار أذنب ذنبا في بلاده، حكموا عليه بما يستحقه». وليس من المستبعد أن هذا الكتاب وجد بعض الصدى له في المجتمعات الإسلامية بعد غزو التتار، وتمكنهم من النفوذ السياسي والإداري في مؤسسات الدولة الإسلامية، وترويجهم إياه في أوساط المسلمين، ذلك أن جنكيز خان وخلفاءه حرصوا على إغراق جميع المؤسسات ومراكز النفوذ بموظفين من التتار، وهو ما أتاح لهم التبشير باليساق على نطاق كبير. ولعل هذا ما كان سببا وراء النقاش الواسع الذي أثير في أوساط الفقهاء والعلماء المسلمين في تلك الفترة وبعدها حول ذلك الكتاب، على نحو ما سنرى في فصل لاحق، فقد كان التتار يقدسونه، سواء كانوا من العامة أو الخاصة أو الحكام، ويقول المقريزي عنه: «فلما مات جنكيز خان، التزم مَن بعده من أولاده وأتباعهم حكم الياسة كالتزام المسلمين حكم القرآن، وجعلوا ذلك دينا لم يعرف عن أحد منهم مخالفته بوجه». وبسبب موقفهم المتردد من الأديان جميعها، لأن شريعة اليساق نصت على التسوية بين جميع الملل دون ميل إلى إحداها، حصلت بين زعماء التتار خلافات حول الاختيار بين المسيحية أو الإسلام لدواع سياسية وعسكرية. وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر، مال أحد زعمائهم وهو أباكا خان إلى المسيحية، إذ كان يراهن على دعم الكنيسة النسطورية من أجل جلب دعم حكام فرنسا وإنجلترا له في حربه ضد المماليك في مصر، لكن دون جدوى، حيث مني بهزيمة منكرة. لكن خليفته أحمد تكودار اعتنق الإسلام، غير أن أحد الزعماء البوذيين انقلب عليه وأطاح به من الحكم، في محاولة لجلب تأييد البابا وملوك أوروبا، وإقناعهم بإرسال حملة صليبية جديدة إلى الشرق، دون فائدة.