يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها). وهكذا واجه الطوسي بدهائه دهاء حسام الدين المنجم، فقد قدم تبريرا يبدو منطقيا بناء على وقائع حدثت في بني العباس، وإذا لم يحدث شيء مما تنبأ به حسام الدين نتيجة لتلك الوقائع، فلن يحدث ما يمكن التخوف منه نتيجة لغزو هولاكو معقل العباسيين. وكان نصير الدين الطوسي، وهو عالم دين شيعي إثنا عشري ومنجم ومن أصحاب الكلام، فارسيا، وربما رأى أن من مصلحته موالاة الاحتلال وإنهاء حكم العباسيين السنة. وكيفما كان الحال، فقد وجه هولاكو حملة عسكرية ساحقة إلى بغداد جعلت وصف القزويني للتتار أكثر الأوصاف دقة، فقد عاث هؤلاء فسادا في بغداد وقتلوا وذبحوا وبقروا بطون الحوامل وأحرقوا، ولم ينجُ منهم بشر ولا شجر أو حيوان، كما هدموا المساجد والمكتبات وقتلوا الكثير من العلماء، ويقول ابن بطوطة: «أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات بن الحاج أعزه لله: سمعت الخطيب أبا عبد الله بن رشيد يقول: لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق، ومعه ابن أخ له، فتفاوضنا الحديث فقال لي: هلك في فتنة التتار بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبق منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه». ولم يكتف هولاكو وجنوده باحتلال المدينة دون مقاومة، بل أصروا على إهانة سكان بغداد وإذلالهم، إذ طلب هولاكو من الخليفة المستعصم بالله أن يعلن في الناس بأن يلقوا أسلحتهم ويخرجوا لإحصائهم، وهو ما حصل، ولكنهم رغم تخليهم عن الأسلحة كان المغول يشتدون فيهم قتلا، «وكان بدء القتل العام والنهب في يوم الأربعاء السابع من صفر، فاندفع الجند مرة واحدة إلى بغداد، وأخذوا يحرقون الأخضر واليابس، ما عدا قليلا من منازل الرعاة وبعض الغرباء». ويزيد المؤرخ الفارسي في تصوير الموقف فيقول إن هولاكو رحل عن بغداد في الرابع عشر من صفر «بسبب عفونة الهواء»، وهذا معناه أن القتل استمر طوال سبعة أيام على الأقل، وأن الهواء صار ملوثا بفعل روائح الجثث الملقاة في الطرقات. وحصلت المواجهة الأخيرة بين هولاكو والمستعصم بالله، الذي كان مصحوبا بثلاثة من أبنائه وبعض الخدم وأفراد حاشية البلاط، وطلب هولاكو من الخليفة أن يسلمه مفاتيح خزائنه، وأهانه إهانة بالغة في الحوار الأخير الذي حصل بين الغالب والمغلوب، ثم قتله شر قتلة مع كبير أولاده، فيما فر الآخرون، فيروي ابن العماد أنه رُفس هو وولده حتى الموت: «فإن الكافر هولاكو أمر به وبولده، فرفسا حتى ماتا، وذلك في آخر المحرم». وفي تصوير للفتنة العمياء التي عمت بغداد حتى أنست الناس دفن الخليفة قال: «وكان الأمر أشغل من أن يوجد مؤرخ لموته أو مواراة جسده، وبقي الوقت بلا خليفة ثلاث سنين». أما الوزير ابن العلقمي، الذي كان طامعا في الحكم، فيبدو أنه مات كمدا، لأنه لم يعش سوى قرابة ثلاثة أشهر، وذلك أنه اقترح على التتار تولية شخص علوي في السلطة، لكنهم رفضوا اقتراحه «واطرحوه، وصار معهم في صورة بعض الغلمان، ومات كمدا، لا رحمه لله». وحسب المؤرخين، فإن المستعصم بالله دفع ثمن استهتاره وعدم مبالاته بما كان يحاك ضد عاصمته، ثم جر معه حضارة بكاملها هي الحضارة العباسية المشرقة. فقد ذكر الفخري أنه خلال أيامه الأخيرة في السلطة «قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة السلطان هولاكو، فلم يحرك ذلك منه عزما ولا نبه منه همة، ولا أحدث عنده هما، وكان كلما سُمع عن السلطان من الاحتياط والاستعداد شيء ظهر من الخليفة نقيضه من التفريط والإهمال، ولم يكن يتصور حقيقة الحال في ذلك ولا يعرف هذه الدولة، يسر لله إحسانها وأعلى شأنها، حق المعرفة». وما قاله الفخري كلام خطير، لأنه يدل على أن آخر الخلفاء العباسيين –التنفيذيين- كان غير مهتم بما يجري داخل دهاليز البلاط بسبب استهتاره، لكنه ربما دل أيضا على أن زمام السلطة الحقيقية كان بيد غيره، ما يعزز فرضية تواطؤ ابن العلقمي مع التتار رفقة طبقة من رجال الحكم في بلاط الخليفة، هذا وإن كان الفخري نفسه يشير إلى أن ابن العلقمي سبق له أن نبه الخليفة مرات عدة إلى ما يجري من استعداد التتار لغزو بغداد، لكن المستعصم لم يكن يوليه اهتماما، وهو خبر غريب، لأن كتب التاريخ الأخرى تتفق على تدبير ابن العلقمي مؤامرة داخلية ضد المستعصم بسبب الصراعات التي كانت موجودة بين السنة والشيعة، خاصة الروافض منهم. ويصف ابن الوردي المستعصم بأنه «كان حسن الديانة، لكنه ضعيف الرأي، وغلب عليه ابن العلقمي وأمراء دولته». ويبدو أن المستعصم لم يكن حاكما طائشا ميالا إلى المجون والدعة فحسب، بل أضاف إلى ذلك الاستبداد السياسي بالرعية والتفرد بالقرار، وهذا على الأقل ما نستنتجه من كلام ابن خلدون الذي لم يثر اهتمامه من أمور الخليفة العباسي سوى الاستبداد، إذ كتب يقول إن هولاكو «صرف وجهه إلى بلاد أصبهان وفارس، ثم إلى الخلفاء المستبدين ببغداد، وعراق العرب، فاستولى على تلك النواحي، واقتحم بغداد على الخليفة المستعصم، آخر بني العباس، وقتله وأعظم فيها العيث والفساد». ولم يتوقف هولاكو عند بغداد، بل واصل طريقه إلى الحلة والكوفة وواسط، وأقام أهل الحلة والكوفة الأفراح، حسب ما يروي رشيد الدين، واستقبلوا الجند خير استقبال، بفعل الخوف والرعب من الجنود الهمج، لكن أهل واسط رفضوا الدخول في طاعة هولاكو، فشن فيهم عملية تقتيل بشعة، حيث قتل ما يزيد على أربعين ألف شخص، ثم واصل طريقه إلى خوزستان؛ وبعدما استتب له الأمر، أعطى تعليماته إلى جنوده بنقل جميع الأموال والغنائم إلى أذربيجان.