شيء ما كان دائما موجودا، وبقي كذلك. الشيء الوحيد الذي تغير فيه هي أوصافه. كان يسمى حزبا سريا، وأصبح يسمى القوة الثالثة، ثم سمي تحكما، واستعيرت حيوانات كالتماسيح والعفاريت للدلالة على تحالفاته. شيء يحس المواطنون أنه ليس هو الدولة، ولكنه روح يسكن بعض مراكزها، ويحرف مساراتها، ويشعرون أنه ليس هو السلطة، ولكنه نفس عام يخترقها. ويحسون أيضا أنه ليس هو السلطة الموازية لسطلة المنتخبين، التي تحكم الجهات والأقاليم والعمالات، ولكنه المركب المصلحي الذي يجعل مخرجات هذه السلطة يسير في اتجاه معاكس للإرادة الشعبية. عرف في التاريخ بأنه الشيء الذي تبقى لما خرج الاستعمار، والشيء الذي يعكس مصالح القوى التي كانت تمثل بالأمس هذا الاستعمار، وهو مختلف التعبيرات التي تخدم هذه المصالح المرتبطة بهذه القوى. هو مركب مصلحي، يوجد في كل التفاصيل، في كل المؤسسات، في كل النخب، في كل مراكز القوة والتأثير، هدفه بالأساس منع الإرادة الحرة للشعب. أعلم أن هذا الخطاب يجد معارضة شديدة من لدن جيل اليوم، الذي يبحث عن الوضوح، عن الشفافية في الكلمات، عن تشخيص الأشياء بدقة، ولا يحب الهلامية، ولغة الضباب التي أغرقنا فيها السياسيون. فليعذرني هذا الجيل، فما عهدت نفسي مناورا، ولا أعرف ركوب هذه اللغة المخاتلة المخادعة. فهذا ما انتهى إليه تحليلي، وما انتهى إليه نظري. البعض يركب نفس لغتي خوفا من التشخيص، ويجد في لغة الغموض حلا للخوف الذي يسكنه ويمنعه من التعبير، لكني، أركب هذه اللغة قناعة ومبدأ، لا خوفا من أن أسمي الأشياء بمسمياتها. الذين يتابعون الواقع الليبي والسوري، يفهمون نسبة الإرادة الداخلية إلى الإرادات الدولية، لأنهم يرون تضاؤل السيادة الوطنية بالوضوح الكافي، وهيمنة الفاعل الخارجي على المقدرات ومصادر الطاقة، لكن هذا الوضوح يختفي عندما يتعلق الأمر بالسياقات التي تتمتع فيها الدولة بالسيادة. السيادة مفهوم قانوني، لا جدال في ذلك، لكن منسوبه مرتبط بحقل السياسة، أو حقل الإرادات، ودرجة تأثير النخب على القرار السياسي. الدولة مفهوم قانوني، أيضا، تبرز تجلياته في واقع المؤسسات، لكن ما المؤسسات إن لم تكن تديرها النخب؟ السياسة، حقل المكونات، التي تتصارع للوصول إلى الحكم، للمشاركة فيه، للتعاون معه، للشراكة معه، لكن ما السياسة إن لم تكن النخب؟ الاقتصاد، حقل إنتاج الثروة، وتوزيعها فيها يتنافس الفاعلون في حقل حر شفاف أو حقل احتكاري مركز، لكن ما الاقتصاد إن لم يكن مدارا من قبل النخب؟ الإعلام، حقل التعبيرات المختلفة، الحقل الذي تتضارب فيه مصالح الفاعلين: من سياسيين واقتصاديين، المؤثرين في القرار، والراغبين في ذلك. لكن ما الإعلام إن لم تحركه نخب المال والسياسة والمصالح وسوق الإشهار والإعلان؟ القضاء، مجال الفصل، الذي يسوي بين النزاعات، ويراهن عليه لتحقيق التوازن بين السلطات، وبين لوبيات المصالح، وبين وبين. لكن ما القضاء، إن لم يكن موجها هو الآخر من ذات النخب، نخب السلطة والمال والنفوذ؟ سيسارع البعض لفهم هذه السلسة الطويلة، ويصادر على المطلوب، ويرجع إلى لغة الوضوح ويدفع بسؤال يقصد به الإحراج ! فليعذرني جيل اليوم، الذي تدفعه العجلة للتشخيص دون فهم عميق، فتقديري مختلف، فالمركب المصلحي الذي يخترق كل هذا النخب يهدد الدولة، ليس فقط الدولة، بل يهدد كل دولة بما في ذلك الدول التي أصبحت تشكل أحلاما معيارية لهذا الجيل الحالم. الإصلاح اليوم لا يصارع الدولة، بل يصارع عدوها، ممن تضطر للاستجابة لنبضه حين لا يكون لها خيار، أو حين تهيمن روحه على كل المؤسسات وتخترق النخب، أو حين تغرق النخب في صراع الدولة، في الوقت الذي تحتاج فيه الدولة لقوة في الشعب تنبهها لعدوها بالوضوح اللازم. يدخل الناس في نقاشات عن إرادة لإزاحة المؤسسات، والاستغناء عن المنتخبين وأدوارهم، وعن التمكين للولاة والعمال، لكن، من يدفع في هذا الاتجاه، وهل مصلحة الدولة في ذلك، وهي التي تستشعر الأخطار عن بعد، وترى من تجربتها السياسية والتاريخية الطويلة ألا بديل عن الاحتماء بالشعب ونخبه الوسيطة؟ الولاة والعمال لن يزيدهم الوضع الجديد إلا رهقا، ولن يقدروا على التدبير، وسيضطرون تحت ضغط الواقع وضغط الطلب، إلى العودة لما قبل العهد الجديد في السلطة. سيكونون مجبرين على ذلك. لكن من هم المستفيدون الكبار من غياب رقابة المؤسسات، ومن ضعف الدولة التي تضطر اليوم لإنهاك مكنتها وسلطتها الإدارية بالاستغناء عن سلطة المؤسسات المنتخبة؟ سؤال يختصر الموقف المبدئي الذي أؤمن به ولا أركب أي لغة مواربة للتخفي خلفه، هي نخب المركب المصلحي، والروح السارية في كل النخب، المخترقة للمؤسسات، التي تمثل ما بقي من الاستعمار، هي النخب التي يلزم اليوم توجيه الإصلاح لهزمها وتحرير الإرادة بإزائها لكسب الدولة وربح المجتمع.