نحتاج إلى إعادة تركيب الصورة من جديد حتى نتمكن من طرح الأسئلة الصحيحة، التي تُعيننا على فهم التحديات التي ستواجه المغرب غداة الخروج من جائحة كورونا. قبل كورونا وقفت السياسة عند معادلة "حد أدنى من السياسة وتغول التقنوقراط"، وشكل النموذج التنموي الجديد الجواب الذي حاول ملأ الشاشة كلها. نقر أن قضية النموذج التنموي، إنما شكل جوابا للمستقبل، أي حاضر انتخابات 2021، وهو بالمناسبة جواب الدولة، لا جواب الأحزاب، وعليه – كما العادة- تحلقت الأحزاب والنخب جميعها. لا نريد أن نستعيد الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أملت هذا الجواب، فهي غير بعيدة عن لحظة التراجع الديمقراطي، وما تلاها من اهتزاز في وحدات مهمة من السلم الاجتماعي، ومن هشاشة في منظومة الوساطة، واستهداف مباشر وبوتيرة غير مسبوقة للمؤسسات. تحدثت الدولة عن أزمة نموذج تنموي، وأقرت باستفادة قلة قليلة من عائدات نسب النمو، كما تساءلت بجدية أين الثروة؟ ثم نزلت بثقلها لدعم البرامج الاجتماعية وإخراجها وتنسيقها، وتلتها برامج دعم المقاولة المتوسطة والصغيرة وتحصينها من الانهيار، وتقديم تمويل مضمون بنسب فائدة غير مسبوقة، وجرى كل ذلك بصيغة سياسية مهترئة، اتجهت نحو التقليص الشديد من اللون الحزبي. بكلمة، إذا أردنا تلخيص الصورة ورسمها، فنستطيع القول إن الجواب عن أزمة السياسة كان بتصدر الدولة للواجهة وملئها للمكان، وإبعاد الحزبي والسياسي أو تقليصه إلى أدنى مستوياته. مع جائحة كورونا لم يتغير شيء في المعادلة، بل زاد حضور الدولة ونزولها بثقل أكبر من السابق، وتحملت الدولة وبنيتها الإدارية حمل تأطير ما تبقى من الحياة السياسية، أو للدقة، حمل الحياة الأمنية بمعناها الشامل (الأمني والغذائي والصحي). لا شك أن الدولة كسبت منسوبا جديدا من الشرعية، شرعية التدبير الاستباقي، وشرعية النظرة الإنسانية التي ترجح سلامة النفوس والأبدان على دوران عجلة الاقتصاد، وشرعية التضامن وقيادته، وقبل هذا وذاك، كسبت شرعية الإجماع، وهذا مهم لأي أمة تخوض تحديات كبيرة من حجم وباء كورونا العالمي. لكن في المقابل، خسرت الدولة الشيء الكثير، بإنهاكها لآلتها الإدارية، وتقليصها لمجال السياسي لأبعد الحدود، وتغيير بوصلة المواطن من الحكومة ومن مختلف الوسائط، وتوجيهها إليها فقط. الواقع، أن ثمة من يظن أن هذا التغيير في البوصلة يشكل هو الآخر عنصرا جديدا في الشرعية، لكن، هذه البوصلة لن تبقى مستقرة على طلب واحد، أي التماس دعم الدولة في الظرفية الحرجة التي تتطلب استدرار الإجماع والتضامن، فما بعد كورونا، ستتغير الاحتياجات، وسيتغير معها السلوك الاجتماعي، وستكون من الخطورة بمكان أن يتوجه الاحتجاج لدى فئات واسعة من المتضررين من مختلف الفئات إلى الدولة بدل الحكومة، وبدل الوسائط السياسية. ثمن من يقرأ هذه العبارات كما ولو كانت تحمل نفسا يزايد على الدولة ويمارس عليها قدرا من الابتزاز، والحقيقة عكس ذلك تماما، فالمصلحة الوطنية تقتضي تقوية الدولة وترصيد مختلف الشرعيات التي حازتها زمن كورونا، وطرح الأسئلة الحقيقية على موقعها ما بعد كورونا. الكل اليوم حائر لا يدري من أين البدء. هل سيستمر الجواب السابق في الرهان على النموذج التنموي الجديد، أم ستستأنف برامج دعم المقولات الصغيرة والمتوسطة، أم أن الخارطة كلها ستتغير في ضوء المعطيات الاقتصادية الجديدة التي تجسدها أرقام ما بعد جائحة كورونا؟ لا نريد اليوم أن يعاد السيناريو عينه، الذي كان في السنة الماضية، أي انتظار انتهاء الجائحة، ثم دخول الأحزاب في حالة عطالة شاملة، وانتظار ما سيجود به جواب الدولة صيف هذا العام لكي ينطلق عنوان جديد للسياسة في المغرب. وضع هذه السنة سيكون مختلفا، ولن يحتمل الانتظار، والدولة نفسها لن تكون مرتاحة من عطالة الأحزاب وانتظاريتها، لأن الأزمة ستكون أكبر منها، ولن تقوى وحدها على تحملها إن لم تضطلع الأحزاب بدورها، وإن لم تتأسس صيغة للسياسة تؤمن العبور إلى ضفة الأمان. تحتاج الدولة في هذه المرحلة إلى من يصارحها ويكلمها بلغة المصلحة العليا للوطن والمؤسسات، فالوضع المقبل بمؤشراته المالية والاقتصادية والاجتماعية سيكون مفزعا، ولن يكون بوسع الصيغ المناورة التي ينتجها الصغار أن تواجه التحديات الكبرى. سيكون المغرب محتاجا إلى قواه الحية، التي تمخضت من رحم الشعب، لكي تتحمل مع الدولة وفي شراكة تعاقدية معها، سيناريوهات الغد القريب، فلا بديل عن العودة إلى الصيغة التعاقدية الديمقراطية، لرفع منسوب السياسة وإعادة ثقة الناس بالمؤسسات، وكسب معركة تدبير الاحتقان بوساطة حزبية ومدنية قوية لا يرى الناس أثر يد السلطة فيها. أما التقنوقراط، فسيخلق واقع ما بعد كرونا الشروط التي ستجعلهم يدخلون إلى مساكنهم ومواقعهم التي يحسنونها بأن يكونوا تحت تصرف السياسي، لا موجهين للسياسة خادمين للنخب التي تدير النخب.