مصطفى المناصفي، باحث وأستاذ بجامعة مولاي إسماعيل، يشتغل في مواضيع بحثية لها صلة بالمجتمع المدني والمشاركة المواطنة. أجرى في الآونة الأخيرة دراسة تبحث في تصور جمعيات المجتمع المدني بالمغرب للإجراءات والتدابير التي اتخذتها الحكومة المغربية لمواجهة انتشار فيروس كورونا وانعكاساته على الحياة الاجتماعية. نتوقف معه، في هذا الحوار، لمعرفة مدى مساهمة المجتمع المدني في التصدي للوباء. أنجزت في الآونة الأخيرة دراسة ميدانية، تفترض حصول ارتفاع نسبي في منسوب الثقة في الحكومة. في نظرك، ما العوامل التي ساعدت على هذه النتيجة؟ *** تجب الإشارة بداية إلى أنني حاولت من خلال الدراسة المنجزة البحث عن عناصر الإجابة لسؤال مرتبط بتصور جمعيات المجتمع المدني للإجراءات الحكومية في سياق كوفيد-19. هذه الدراسة أنجزت بناء على تقنية الاستبيان الإلكتروني، ويمكن إغناؤها، مباشرة بعد فترة الحجر الصحي وحالة الطوارئ، بمعطيات ميدانية أخرى عبر تقنيات تنتمي إلى مناهج العلوم الاجتماعية والسياسية. هذه الدراسة قدمت ونوقشت في ندوة رقمية، وستنشر لاحقا في كتاب جماعي إلى جانب دراسات أخرى، ستنجزها مراكز بحوث وجمعيات مدنية، بإشراف من برنامج "دعم" الممول من طرف السفارة البريطانية بالمغرب. بالعودة إلى سؤالك فعلا من بين نتائج الدراسة أن منسوب الثقة في مؤسسة الحكومة ارتفع خلال هذه الأزمة، ويمكن تفسير ذلك بمنح الحكومة الأولوية للمواطن بدل الاقتصاد، وأيضا إلى التواصل اليومي لهذه الأخيرة مع المواطنين، علما أن الواقع أظهر أن موظفين لدى الحكومة هم من كانوا/ ولازالوا يقومون بالتواصل، وليس ممثل الحكومة أو ناطقها الرسمي. كما أن الأزمة الحالية خلقت في البداية نوعا من "اللحمة الوطنية"- وهذا شيء طبيعي بالنظر إلى طبيعة الأزمة. وساهمت في هذه اللحمة ثقافة المجتمع التي تؤمن بضرورة الاتحاد والتعاون ضد أي "عدو" أجنبي، والأمثال الشعبية خير معبر عن ذلك: "أنا وأخي ضد ابن عمي، وأنا وابن عمي ضد الأجنبي". ألا ترى أن هذا المنسوب تراجع في الشطر الثاني من فترة العزل الصحية؟ هل يمكن أن يرد ذلك إلى ما سمي في الإعلام ب"قانون الكمامة" الذي أثار شكوكا كبيرة في نوايا الحكومة المقبلة؟ أم يمكن تفسير هذا التراجع بازدواجية تطبيق إجراءات الطوارئ التي أغمضت الطرف عن خروقات الشركات، بينما أسفرت عن اعتقال عشرات الآلاف من المواطنين الذين لم يلتزموا بها؟ *** قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب التنبيه أولا أن الدراسة أنجزت خلال الفترة الممتدة ما بين 17 أبريل و4 ماي، أي الفترة التي سبقت ذروة انتشار الوباء بالمملكة، علما أن تسريب ما سمي إعلاميا "قانون الكمامة" بدأ الحديث عنه في نهاية شهر أبريل، وبالتالي، سيصعب القول إن تراجع هذه الثقة راجع فقط، إلى تسريب مشروع قانون رقم 22.20. يمكن تفسير تراجع الثقة في مؤسسة الحكومة إلى بعض الارتباك الذي ظهر في تدبير هذه الأخيرة للأزمة الصحية الحالية خلال فترة الذروة وبعدها، وأيضا إلى بعض الممارسات التي نسبت إلى بعض من رجال السلطة، كما أن جلوس أغلب المواطنين أمام التلفاز والحاسوب مكنهم من الاطلاع على ما يجري خارج المغرب، وبالتالي، سمح لهم ذلك بمقارنة الكيفية التي تدبر بها الأزمة الحالية في سياقات مختلفة، دون الأخذ بعين الاعتبار إمكانات كل بلد. على كل حال هناك عوامل ذاتية وموضوعية قد تساهم في ارتفاع أو تراجع الثقة في الحكومة خلال فترة الأزمات، وقد تؤثر فيها، كذلك، عوامل أخرى يمكن للباحثين في علم النفس الاجتماعي تفسيرها وربطها بالسياق الحالي. في المقابل، تفيد دراستك أن منسوب الثقة في الجماعات الترابية تراجع. هل تأثر عمل هذه الجماعات بتداعيات الوباء؟ أم إن الساهرين عجزوا عن التعامل مع ظاهرة طارئة كهذه لغياب الإمكانيات المادية واللوجيستيكية؟ أم يمكن تفسير ذلك باستفراد الحكومة ب"خطة" مواجهة الوباء، إن كانت موجودة فعلا؟ *** بيّنت الدراسة المنجزة، وكذا الرصد الذي قمت به عبر الإعلام، أن الجماعات الترابية لم تكن حاضرة في تدبير الأزمة، قد تكون هذه الأخيرة ساهمت في تدبير الأزمة، إلا أن تسويق ذلك لم يكن جيدا. لكن دعنا نتحدث وفق ما هو ملموس، الظاهر أن الجماعات الترابية تفتقد لصلاحيات كبيرة تخول لها المساهمة في تدبير مثل هذه الأزمات. الأزمة أظهرت بأن ممثلي الإدارة المركزية كان لهم ولازال دور محوري في تدبير الشأن العام، سواء على المستوى الوطني أو المحلي، ويمكن تفسير ذلك بطبيعة النظام السياسي للبلد. هذا الأخير، يلعب فيه ممثلو السلطات المركزية دورا محوريا في الحياة العادية، فبالأحرى خلال فترة الأزمات. كما يجب تسجيل ملاحظة مفادها أنه خلال هذه الأزمة ظهرت أصوات تنادي بحكومة تقنوقراط، هذا المعطى قد يفسر، أيضا، بوجود "حرب صامتة" بين الفاعل السياسي والتقنوقراط. وربما يدخل تهميش المنتخبين المحليين والجماعات الترابية التي يمثلونها في هذا الإطار، وهذه تبقى فرضية يمكن أن تبينها أو تنفيها أدوات البحث في العلوم الاجتماعية والسياسية. يتمحور السؤال الجوهري في هذه الدراسة، التي شملت كيانات جمعوية تنتمي إلى 11 جهة، حول تصور جمعيات المجتمع المدني للإجراءات والتدابير التي اتخذتها الحكومة لمواجهة الأزمة الصحية. ما طبيعة هذا التصور؟ وما مرتكزاته الأساسية؟ وهل يختلف عما طرحته الحكومة حتى الآن؟ *** يبلغ عدد جمعيات المجتمع المدني بالمغرب، حسب المعطيات الرسمية، 160 ألف جمعية. ولهذه الجمعيات تصور معين، يمكن أن تؤثر فيه مجموعة من العوامل، كمسار/ بروفيل الجمعية، وأيضا، بروفيل أعضائها، وطبيعة نشأتها وقربها أو بعدها من السلطات العمومية أو شخصيات مقربة من هذه الأخيرة، وعلاقتها بالأحزاب السياسية. وبالتالي، فكل هذه العوامل، إلى جانب عوامل أخرى، تؤثر في اختياراتها، وفي قيامها أيضا بالدور الأساسي الذي خلقت من أجله، وهو الترافع بغية تجويد السياسات العمومية. الملاحظ في الدراسة، من خلال سؤال بسيط طرح على المستجوبين حول المجالات التي يمكن أن تشكل أولوية بالنسبة إلى الجمعيات في ظل الأزمة الحالية، أن وضعية فئة الشباب والنساء والأشخاص في وضعية إعاقة والأشخاص الذين يعانون من الإقصاء والتهميش والبطالة ومن ضعف الأنشطة المرتبطة بالتربية والتكوين، هي الفئات التي تعيش وضعيات مقلقة ويلزم الاهتمام بها. إذن، هناك طلب اجتماعي يستدعي الاهتمام أكثر بهذه الفئات. لقد ركزت الحكومة في ظل الأزمة الحالية على الأجراء في القطاع الخاص، وعلى الفئات الهشة التي تعيش من الاقتصاد غير المهيكل، وعلى المستفيدين من بطاقة "راميد". لهذا الاهتمام تفسير اجتماعي وسياسي أيضا، لأن تهميش هذه الفئات وعدم استفادتها من الدعم قد يصعب التحكم في عواقبه خلال الفترة المسماة "ما بعد الأزمة" (Post-crise). أكيد أن السلطات العمومية تفكر في كيفية تدبير هذه الفترة، أي فترة "ما بعد الأزمة"، لأن احتمال ظهور حركات احتجاجية يبقى قائما، بالنظر إلى الآثار الاجتماعية للأزمة على فئات كثيرة من المجتمع. الأمر لا يتعلق فقط بالمغرب، لكن بدول أخرى قد تُصنف في عداد الدول المتقدمة. بناء على نتائج الدراسة عينها، ما أبرز المخاطر والتحديات التي تطرحها فترة التوقف الإجباري على العمل الجمعوي في المغرب؟ وهل هناك اقتراحات من أجل تجاوز آثار الأزمة الصحية الراهنة؟ *** فعلا، هناك عدة تحديات ستواجه جمعيات المجتمع المدني على المدى المتوسط والبعيد. الأزمة الحالية، حسب الدراسة، ستؤثر على السير العادي لعمل الجمعيات وعلى شركاتها الوطنية والدولية. إذ ستتراجع الجهات المانحة في دعم هذه الجمعيات، ولن يكون الأمر كما كان في السابق، لأن الدول الأوروبية، بالخصوص تلك التي مولت مجموعة من المشاريع الجمعوية، ستركز أولوياتها على المستوى الداخلي، وبالتالي سيتأثر التعاون الدولي نوعا ما بهذه الأزمة. كما ستؤثر الوضعية الحالية على التطوع والانخراط في الجمعيات المدنية، لربما سنتجه أكثر إلى نوع من الفردانية على حساب المصلحة العامة. الأزمات قد تؤثر في الدول والتنظيمات، لكنها بدون شك تؤثر في اختيارات الأفراد وفي ترتيب أولوياتهم. تجدر الإشارة إلى أن درجة التطوع في المغرب تبقى ضعيفة بالمقارنة مع عدد السكان، وهذا راجع لعوامل ثقافية، سياسية واجتماعية. اليوم، مع الأزمة الحالية سيكون هناك تراجع أكبر، وقد تغلق بعض الجمعيات أبوابها. وفي هذا الإطار، وجوابا عن الشق الثاني من سؤالك، الجمعيات المشاركة في الاستبيان ركزت على ضرورة دعمها ماديا حتى تضمن لنفسها السير العادي. وبالتالي، يبقى الدعم العمومي بالنسبة إلى هذه الجمعيات هو المنقذ من أجل استمرارها وبقائها على قيد الحياة. من جانب آخر، ما هي أهم القطاعات التي ترى مكونات المجتمع المدني المغربي أن تحظى بالأولوية بعد الانتهاء بإجراءات الطوارئ الصحية؟ *** أظهرت نتائج الدراسة أن الإجراءات ذات الأولوية التي يجب أن تستثمر فيها الجمعيات مرتبطة بالتوعية والتحسيس من أجل الحد من المخاطر، والقيام بأنشطة متعلقة بتقديم الخدمات الأساسية كالصحة وتوزيع المواد الغذائية. وحسب نتائج الدراسة، فإن الجهود الحكومية والمدنية يجب أن تستثمر بعد الخروج من الأزمة في السياسات والأنشطة التي تستهدف الأفراد أكثر فقرا، بالإضافة إلى الأنشطة المتعلقة بقطاع التربية والتكوين، ثم الأنشطة التي تستهدف نظام الحماية الاجتماعية والنظام الصحي. بمعنى آخر، الدولة مدعوة إلى تركيز جهودها على تجويد السياسات الاجتماعية وجعلها أكثر فعالية حتى تستفيد منها الفئات الهشة والأكثر تضررا. وهنا يطرح سؤال تقييم السياسات الاجتماعية الحالية، ووضع سيناريوهات لتجويدها بهدف تأثيرها على الفئات المستهدفة بشكل إيجابي. في نظرك، وانطلاقا من نتائج هذه الدراسة، هل هناك حاجة إلى إحداث تغييرات جذرية في السياسات الاجتماعية، خاصة قطاعي الصحة والتعليم؟ *** بطبيعة الحال، كما ذكرت جوابا عن سؤالك السابق، يحتاج بلد مثل المغرب إلى إعادة النظر في سياساته الاجتماعية، وإلا كيف يمكن لنا تفسير استفادة، حسب المعطيات الرسمية، 5 مليون أسرة من المساعدات الحكومية التي منحت لها في ظل هذه الأزمة. حسب تقارير برنامج الأممالمتحدة للتنمية تقدم المجتمعات وتنميتها رهين بقطاعين أساسيين: الصحة والتعليم. لهذا لا يمكن لنا الحديث عن النموذج التنموي الجديد دون منح الأولوية للقطاعين السالف ذكرهما، وبالتالي، فهناك حاجة إلى الاستثمار في المواطن، وفي الوقت عينه أظهرت الأزمة الحالية أننا في حاجة إلى القضاء على الاقتصاد غير المهيكل، ووضع إطار قانوني للفئات الهشة التي تعيش من هذا الاقتصاد، حتى تنتقل هذه الفئات من وضعية هشاشة إلى نوع من "الاستقرار" الاجتماعي. ذلك أن الاقتصاد غير المهيكل يساهم في تقوية الهشاشة، ويجعل من المجتمع وأفراده يعيشون في وضعية الخوف من المستقبل، مما يساهم في بروز ظواهر اجتماعية وسياسية متعددة كالهجرة القروية، هجرة الكفاءات إلى الخارج، وظهور الحركات الاحتجاجية، وغياب الثقة في المؤسسات السياسية.