حتى أكون صريحا، لفت انتباهي مسلك وزارة الخارجية في إدارة الصراع مع منظمة العفو الدولية، بالهدوء اللازم، وبالانتقادات التي يظهر التفاتها للشكل بعضا من خلفيات الموضوع، وأيضا بإعلان التحدي من خلال المطالبة بالإعلان عن الأدلة أمام العالم. كان يكفي هذا الموقف لإنهاء الموضوع، ولجعل الكرة في ملعب منظمة العفو الدولية، مع أن جواب المغرب بكل مستوياته، إنما توجه فقط وبشكل أساسي لرد التهمة المرتبطة بالتجسس والتنصت على معارضين أو أصحاب أقلام حرة، أما ما يتعلق بالوقائع التي تخص حرية الصحافة والرأي، مما تضمنه تقرير منظمة العفو الدولية، فكثير منها، لا يتطرق إليه الشك، إذ لا ينبغي أن تدفعنا الحمية للدفاع عن النفس والانتصار ضد الظلم، إلى جعل تقرير منظمة العفو الدولية كله في مستوى واحد. ينبغي أن نميز بين الأمرين، وخيرا فعلت وزارة الخارجية، حينما ركزت على ملف واحد، توجد مظلومية فيه، لخلق نوع من الإجماع حوله، أما محاولة توسيع الإجماع بضم الوقائع الحقوقية الأخرى إلى التهمة الموجهة إلى المغرب، فهذا تحكم، ولن يكسب أي مصداقية في جواب المغرب وطريقة تعاطيه. ينبغي أن يكون هناك وضوح في الموقف، وتمييز بين المستويات، حتى لا يقع الخلط، فيصير الذي يدافع عن مصالح بلده، كما ولو كان يبرر تعسفها على الحقوق، أو يصير الذي ينتقد تعسف السلطة في استهداف حرية الرأي، كما ولو كان يقف في جبهة الدفاع عن أحقية اتهام منظمة العفو الدولية للمغرب. صحيح أنه لفت انتباهي مسلك وزارة الخارجية في إدارة الملف، لكن في الوقت عينه، لا أخفي انزعاجي من اصطفاف ثلاثة وزراء للرد على منظمة حقوقية واحدة، كما ولو كان المغرب يواجه دولة أو اصطفافا إقليميا ضده. نتفهم أن تكون الرسالة محاولة تبين وحدة الموقف، بين الدولة والحكومة من جهة، وبين مكونات الحكومة من جهة ثانية، لكن هذه الرسالة كان من الممكن توجيهها بطريقة أخرى لا تظهر حجم الانزعاج الكبير الذي قد يفقد الهدوء اللازم في التعامل مع هذه القضية. وما أثارني أكثر، هو الطريقة التي جرى بها التعامل مع الصحافي عمر الراضي، كما ولو أن هناك من داخل السلطة من لا يفهم لعبة "البوز" الحقوقي، ويستدرج إلى المعركة الخطأ، فيسقط في حبالها، فيصير يسجل الأهداف على مرماه. المفارقة أنه في الوقت الذي يقوم فيه أصحاب الحكمة بالتدبير الهادئ والذكي للملف، ويأخذ منهم ذلك وقتا طويلا من الزمن في التفكير المتعقل، يأتي آخرون، فيهدمون كل شيء بقرارات خاطئة، تجلب سخرية الجميع، وتدفع البعض إلى التشكيك في جواب المغرب، وربما في إثبات "مظلومية" منظمة العفو الدولية. فليبق القرار المغربي المتزن والحكيم عند حدود المطالبة بالرد والجواب بأسلوب فيه قدر عال من التحدي الهادئ. أما الصحافي، عمر الراضي، فالقضية معه، ينبغي أن تكون هي الأخيرة، أي بعد جواب المنظمة، إذ حيث لا جواب، يكون إذ ذاك من السائغ محاكمته بطريقة قانونية وشرعية لا غبار عليها، أما أن يتابع في اليوم الموالي على خلفية احتكاك مع جهة، فثمة علامات استفهام على مصداقيتها، وهذا عبث. التدبير الحكيم للملف يتطلب الاستمرار في منطق الاتزان، والفصل بين مشمولات تقرير المنظمة، ودفع وزير واحد – وليكن المعني بحقوق الإنسان- للجواب عن الشق المرتبط بوقائع ومؤشرات تراجع حقوق الإنسان الواردة في التقرير، وترك الحكمة تأخذ مداها في ملفين اثنين، ملف التهمة المغلظة، وفضح أبعادها وخلفياتها السياسية، ولِم لا الاختراقات التي تتعرض لها من قبل قوى إقليمية، والملف الثاني، هو التعامل مع الصحافي عمر الراضي. من الحكمة، أن يتم التعامل مع ملف الصحافي بناء على افتراض وجود رغبة في "البوز"، فهناك سوابق ل"بوز" حقوقي أساءت السلطة التعامل معها، نتج عنها أن كسب منها ناشطون حقوقيون الكثير، ويمكن أن نمثل لذلك لناشطة حركة "مالي" التي كانت نكرة، فصارت اليوم من إحدى الناشطات الدوليات في مجال الحريات الفردية المسنودة فرنسيا ودوليا، فضلا عن الآفاق النشرية التي فتحت لها ولغيرها من أصحاب "البوز"، وإذ ذاك فالأنسب، عدم مسايرة مثل هذه الرغبات، وربط ملف الصحافي بمآل ملف جواب منظمة العفو الدولية. أما التعامل بالشكل الذي جرى، فيدل على استمرار منطق الارتباك والانزعاج والتصرف بما يعاكس المصلحة الوطنية. الوضع الحقوقي في المغرب غير مريح، وحرية الصحافة تراجعت، لكن مع ذلك، من الضروري للمواطن الحر أن يكون مع بلده عند أي استهداف، لكن نصرة البلد لا يعني القبول بالأخطاء القاتلة. نرجو من صوت الحكمة والهدوء أن يستمر، فالمغرب دائما يكسب كثيرا حينما يكتب لهذا الصوت أن يأخذ مداه في تدبير الملفات.