منذ مجيء محمد السادس جرى التركيز على منطقة الشمال عبر العديد من المشاريع، كيف يؤثر ذلك على وضع مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين؟ خلال العشرين سنة الأخيرة رأينا تركيزا للاستثمار في البنية التحتية على مستوى محور طنجة-الدارالبيضاء، في إطار سعي الدولة إلى تقوية المحور الرابط بين العاصمة الاقتصادية وبين الشمال، الذي يشكل المنفذ على الاتحاد الأوروبي، الشريك الاقتصادي الأول للمغرب. وفي الواقع لا تستطيع الدولة توفير موارد مالية كبيرة للاستثمار في البنية التحتية على المستوى الوطني ككل، لهذا بدأت بهذا المحور، وقد وفر هذا الاستثمار بعض الفرص للساكنة وشكل في الآن عينه، فرصة للمستثمرين والمقاولين من خلال الاستفادة المباشرة من مزايا البنية التحتية للمنطقة لتوطين أعمالهم الصناعية والتجارية. بالإضافة إلى مشاريع أخرى جرى تنفيذها في مدن الشمال المطلة على حوض المتوسط، ثم لا شك أن هذا الواقع الجديد سيؤثر فعلا على ظاهرة التهريب التي توفر شريان الحياة لمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين من طرف إسبانيا. هل يمكن أن يؤدي خيار التركيز على المنطقة من خلال مشاريع البنيات التحتية والموانئ والحد من التهريب، إلى مراجعة وضع مدينتي سبتة ومليلية؟ هناك توضيحان في هذا الشأن، إذ يتحدث بعض المعلقين عما يسمونه خنق مدينتي سبتة ومليلية، ومن منظوري الخاص لا أرى أن الأمر يتعلق بخنق ولا بحصار، إنها وضعية لم تكن سليمة، ومن أجل تصحيحها ينبغي توفير شروط التنمية بنسبة معينة في المنطقة الشمالية للمغرب. أما التوضيح الثاني، فيتعلق بما يتردد دائما أن بعض المغاربة يعيشون على التهريب، في حين أن الذي كان يعيش على التهريب هم الإسبان، الذين كانوا يصرفون سلعهم في المدينتين، إذ إنهم هم الرابح الأول، وهناك بعض الوسطاء المغاربة الذين يعملون كوسطاء في تلك التجارة، ولكن تلك التجارة لم تجعل منهم أثرياء ولم تساهم في تطوير مقاولات كبيرة أو تنتقل بهم من حالة الفقر والهشاشة إلى حالة الثراء، إنهم طوال عقود يراوحون مكانهم. ثم إن معانات أغلبهم وشكاواهم بعد إيقاف التهريب تؤكد أن ذلك التهريب لم يكن سوى قناع مزيف وضع على الفقر والهشاشة. وفي القرن الواحد والعشرين لا أظن أن بلدا ينشد التقدم والرخاء والتنمية سيترك مدينة أو منطقة بأكملها ضحية ممارسات مثل هاته، إن التهريب المعيشي لم يجعل أبدا من أي بلد يسير في طريق النمو بلدا مزدهرا، في حين أنه يخلق أثرياء في الجهة الأخرى. ومنه، فجوابي عن سؤالك بخصوص وضعيتي سبتة ومليلية، فنعم ستتغير من الناحية الاقتصادية، ولا شك أن ذلك سيؤدي إلى تأثيرات سياسية أيضا في المدينتين. لكن تنمية الشمال المغربي وإيقاف النزيف الاقتصادي لا يجب أن تعلق عليه مشاكل المدينتين. هل يسمح هذا التوجه بتطور العلاقات الإسبانية المغربية وبناء مصالح اقتصادية مشتركة؟ في السنوات الأخيرة قلصت إسبانيا الفجوة بينها وبين فرنسا فيما يخص علاقاتها التجارية مع المغرب، وفي بعض الفترات قفزت إلى المرتبة الأولى. وإذا نظرت حكومة مدريد إلى مجمل علاقتها الاقتصادية مع المغرب، فأظن أن ليس من مصلحتها أن تقف ضد ما يقوم به المغرب من تنمية في الشمال. ومنطق الشراكة والمصالح المشتركة ينبغي أن يُبنى على أسس سليمة. إذ لا يمكن لهذا التهريب أن يستمر لأنه، بالإضافة إلى أنه يرمي في الأسواق المغربية منتجات غذائية غير خاضعة للمراقبة ولا تصدر للمغرب وفق القواعد التجارية القانونية، فإنه في الآن عينه يعرقل تنمية الشمال من خلال الحفاظ على نشاط تجاري معيشي تهريبي، ذا قيمة مضافة منخفضة ويسبب نزيفا لميزانية الدولة. عاجلا أم آجلا، سيفهم الإسبان أن منطق المصالح المشتركة يجب أن يتجسد في شراكة بين اقتصادين قويين، وليس من خلال استدامة الهشاشة الاقتصادية شمال المغرب، ومن ثم سيتغير رأيهم. أما إذا لم يفهموا ذلك، وكانوا يعتقدون أن التهريب هو مصدر الرخاء بالنسبة إليهم، فسيكون عليهم أن يراجعوا هذه الفكرة التي تقوض تنمية جزء من الشمال المغربي. ما انعكاسات ذلك إقليميا ودوليا؟ لن تكون له أية انعكاسات، ولن يخرج عن موضوع الجدل السياسي الانتخابي في إسبانيا أولا، وأخيرا. أما على المستوى الدولي، فالقضايا أصبحت كبيرة جدا ومعقدة، بين المخلفات التي ستتركها كورونا وراءها، وبين فشل المؤسسات الأممية في أداء أدوارها، وبين التأثيرات متوسطة المدى للبريكست على الأوروبيين، وفشل عدد من المجتمعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في إعادة بناء الدولة بعد انتفاضات ما تزال مستمرة منذ 2011، ستظل الأجندة العالمية مزدحمة. كما أن مشاكل الاتحاد الأوروبي والإسبان أنفسهم في السنوات الأخيرة أصبحت أكبر من أن تُلقى على عاتق بلد نام مثل المغرب. لذلك، لا أرى مكانا لهذا على أجندات الدول الإقليمية. أما على المستوى الدولي، فمشاكله المستعصية أكبر بكثير.