أثارت خطوة الإمارات التطبيع مع الكيان الصهيوني ضجة إعلامية كبيرة، دفعت ببعض الكتاب إلى الانسحاب من هيئات تنظيمية ثقافية أو هيئات تحرير بعض المجلات، وسحب البعض الآخر ترشحهم لمختلف الجوائز الأدبية والفكرية والفنية التي تشرف عليها جهات إماراتية، خاصة تلك المفتوحة أبوابها الآن، كجائزتي الشيخ زايد وجائزة البوكر. كما عمل بعض الواقفين خلف هذه الضجة على حشر فئة من زملائهم، خاصة أولئك الفائزين ببعض الجوائز الخليجية، في الزاوية، سعيا إلى شيطنتهم والتشهير بهم. والواقع أن موقف مثقف اليوم -في المغرب على الأقل- يتسم بالكثير من التذبذب والتباين والتناقض والريبة والتوجس. إذ تجده تارة سخيا في التعبير عن موقفه، حيث يتوسع في شرحه ويبذل قصارى جهده لتعميمه وإشاعته. وتراه تارة ثانية بخيلا مقترا في التعبير عنه. وتصادفه تارة ثالثة معرضا عن إبداء أي موقف أو رأي أو وجهة نظر... أذكر أنه عندما دخل المغرب حرب اليمن، إلى جانب السعودية وحلفائها، رفض كثير ممن اتصلتُ بهم حينها التعبير عن أي موقف حول الموضوع. بل واجهتُ إجماعا في هذا الرفض، لأسباب لم أتمكن مع معرفتها إلى حد الآن، علما أن تلك المشاركة كانت تقتضي الإدانة والاستنكار بوضوح. كما يمكن الاستشهاد، تمثيلا عن هذا التذبذب، بقضية المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي اليوم. ذلك أن قلة فقط هي التي أدانت واستنكرت الاعتقالات التعسفية التي تعرض لها بعض النشطاء والصحافيين القابعين خلف السجون بتهم ملفقة وواهية. لنعد الآن إلى مسألة التطبيع. لا بد من الاعتراف، من ناحية أولى، بأهمية هذا الإجماع شبه الكلي لدى المثقفين المغاربة حول القضية الفلسطينية، ومساندتهم كفاح الفلسطينيين من أجل نيل حقوقهم كاملة غير منقوصة. وهو إجماع يكشف مدى حضور هذه القضية في أذهان المثقفين المغاربة، ومدى تأثيرها في الضمير والوجدان المغربيين. ومن ناحية ثانية، لنبد ملاحظة مفادها أن الموقف من ظاهرة التطبيع يطبعه التذبذب والتوجس اللذين سبقت الإشارة إليهما. ذلك أننا سجلنا العديد من الحالات التي لم يُبْدِ تجاهها المثقفون المغاربة سوى ردود محتشمة، حيث يمكن أن نستشهد، تمثيلا لا حصرا، بالتبادل التجاري بين المغرب والكيان الصهيوني، واتساع دائرة سياحة الصهاينة بالمغرب، وبناء نصب لما سمي ب«الهولوكوست» بنواحي مراكش، وسفر بعض الفنانين والمخرجين والصحافيين والكتاب والنشطاء إلى الكيان الصهيوني للمشاركة في مهرجاناته وملتقياته، الخ. غير أن هذا لا يمنع من الإشادة بالموقف الذي عبر عنه بعض الكتاب، وهم يسحبون ترشحهم لبعض الجوائز الإماراتية، احتجاجا على خطوة الإمارات الرامية إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتعبيرا عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية، ورفضهم أي مزايدات أو مساومات يقف خلفها آخرون على حساب أهل القضية أنفسهم. إلا أن ما يلفت النظر هنا هو مطالبة البعض بالامتناع عن المشاركة في أي نشاط ثقافي خليجي مهما كان موضوعه وشكله وأصحابه، وبإرجاع الأموال الخليجية الناتجة عن الفوز بجوائز معينة، أو عن المشاركات السابقة في المحاضرات والندوات والمؤتمرات، أو عن أي شكل آخر من أشكال التلاقي بين المغرب والمشرق. لا بد من تأكيد أمرين هنا؛ أولهما أن حضور الأدباء والمفكرين والفنانين في المشرق هو حضور قديم، تجسد منذ قرون في سفريات كبار الفقهاء المغاربة والأندلسيين إلى المشرق، مثل ما تجسد من خلال سفريات كبار المفكرين والشعراء والمتصوفة من أمثال ابن خلدون وابن عربي، الخ. وتزايد هذا الترحال نحو المشرق خلال القرن العشرين، طلبا للعلم في جامعات بغداد ودمشق والقاهرة، أو مساهمة في المناظرات واللقاءات العلمية والمحاضرات داخل الجامعات والمجامع اللغوية، أو مشاركة في الأماسي والمهرجانات الفنية... أما الأمر الثاني، فيكمن في أن هذا الحضور أضحى مكثفا خلال العشريتين الأخيرتين بشكل غير مسبوق. إذ ليس مجرد حضور ظاهري أو اسمي، وإنما هو حضور فاعل ومؤثر، من أبرز تجلياته مشاركة عدد من الجامعيين المغاربة البارزين، خلال السنوات القليلة الماضية، في تأسيس جامعات وكليات ومعاهد، وتنظيم شعبها العلمية تنظيما محكما، خاصة في قطروالإمارات. بل يمكن اعتبار هذا الأمر نوعا من رد الجميل للمشارقة الذين أسهموا في تكوين أجيال من الطلاب المغاربة، كنجيب بلدي مثلا. ولما كان هذا الحضور طبيعيا وعاديا، لأنه ممارسة تاريخية راسخة، فإن بعض المثقفين المغاربة، من أمثال محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان وعلي أومليل وآخرين، ممن وجدوا أنفسهم في غمرة هذه المشاركات بالمشرق محاصرين بأسئلة محرجة تطرحها المواقف السياسية للدول العربية، عملوا على التمييز بين هذه العلاقات الثقافية التي أرساها التاريخ، والتموقف من القضايا السياسية الطارئة. هكذا، لم تمنعهم هذه المشاركات من التعبير عن آرائهم تجاه القضية الفلسطينية نفسها، أو حرب الخليج، أو احتلال العراق... إلا أن تحول العواصم الثقافية، خلال السنوات القليلة الماضية، من القاهرة ودمشق وبغداد إلى الدوحة وأبوظبي، وإغراق الثقافة العربية بالرأسمال النفطي -في صيغة جوائز ومكافآت- أثرا سلبا في بناء الرأي وتشكيل الوعي وصياغة المواقف تجاه القضايا الإنسانية الكبرى. لعل أبرز تجليات هذا الأثر السلبي التقاطبات والاصطفافات والتناطحات الإيديولوجية حول قضايا راهنة تحتاج إلى موقف جذري لاستنكار حملات التضليل والتمويه حولها. ومثال ذلك، التردد الذي امتد أكثر من اللازم تجاه قضايا سوريا وليبيا واليمن والعراق، والارتباك الحاصل الآن تجاه عودة الاستبداد وحملات الغزو الإمبريالي ومحاربة التطرف الوهابي، الخ. من هنا، وجب أن يكون موقف المثقف جذريا وحاسما تجاه كل القضايا الإنسانية المطروحة الآن. صحيح أن الهرولة نحو التطبيع مرفوضة، لكن التموقف منها ينبغي أن يكون قاطعا وشاملا. وأول ما يستدعي الانتقاد هو ما يجري على التراب المغربي من اختراقات صهيونية خطيرة، كما سبقت الإشارة إليه، دون أن يمنع ذلك، طبعا، من إدانة كل أشكال التطبيع عربيا، ومن الوقوف إلى جانب القضايا العادلة عالميا.