في أواسط القرن التاسع عشر، ألف الكاتب والصحافي الفرنسي "فريدريك باستيا" (1801- 1850) كتابا بسيطا ومؤثرا في الآن، مما تصفه العرب بالسهل الممتنع، بعنوان "ما يرى وما لا يرى". تتلخص فكرته العامة في الحكمة التالية: "لا تحكم على الأشياء بما تراه، بل بما لا تراه أيضا". ويمكن تجسيد هذه الحكمة في مثال كهذا: إن ما نراه هو أن الحكومة تشق طريقا، أو تبني قصرا، أو تصلح شارعا، أو تحفر قناة؛ وهي بذلك توفر عملا للبعض وتنشط الحركة الاقتصادية. لكن ما لا نراه هو العملية القانونية التي تشرعن هذا المشروع أو ذاك، وطريقة ومراحل تنفيذه، وكيفية تحديد الميزانية الخاصة به، ومعايير تحديد المقاولات المستفيدة منه، إلخ. بمنطق الظاهر والباطن هذا الذي يطبقه "باستيا" على السياسة والضريبة والفن والخدمات العمومية ومجالات أخرى، يمكن أن ننظر، ولو بنوع من التبسيط لفكرة الكتاب، إلى جملة الأحداث والقرارات السياسية والتحركات الحكومية الراهنة. فما نراه في الوقت الراهن، مثلا، هو تفشٍّ مهول لفيروس كورونا وارتفاع عدد الإصابات والوفيات بين المغاربة. هذه نتيجة طبعا. فالسبب الظاهر هو الاطمئنان الخادع إلى مقولة "الاستثناء المغربي"، والإبقاء على عيد الأضحى، والتساهل مع حركة الناس مع بداية العطلة الصيفية. أضف إلى هذا، من جانب، الخصاص الفادح في البنيات الصحية والتجهيزات والمعدات الطبية، وإرهاق الموارد البشرية؛ ومن جانب ثان، غض الطرف عن المصانع والمعامل والمتاجر والضيعات، إلخ. لكن ما لا نراه هو غياب التصور وسوء التخطيط وتخبط الحكومة وفشل القرارات والإجراءات المتسرعة والافتقاد إلى البوصلة في كل شيء والافتقار إلى كفاءات حقيقية ضمن التركيبة الحكومية. أما اتهام المغاربة وتحميلهم مسؤولية هذا التفشي المهول، فينم عن محاولة للهروب إلى الأمام، تخفي خلفها تاريخا طويلا من التجهيل ومحاربة العلم والتنوير اللذين كانا من شأنهما أن يبنيا شعبا واعيا قادرا على مواجهة التحديات الحقيقية والتهديدات الخطيرة، مثل الخطر الوبائي اليوم. فما نراه اليوم هو الجهل الذي يدفع شرائح كبيرة من المجتمع إلى الاستهانة بالفيروس، بل وإنكار وجوده، ومن ثمة المخاطرة بحياتها وحياة الآخرين. لكن ما لا يرى هو الإهمال المقصود للتعليم والتوعية وإقصاء الأستاذ وتشويه صورة مربي الأجيال وصناع العقول. ما لا نراه هو المسلسل الطويل الأمد لِما سمّاه عالم الاجتماع الراحل محمد جسوس ب"التضبيع"، عبر إشاعة التفاهة وتعميم التسطيح عبر التلفزيون ووسائط التواصل الآن، والتسامح مع الشعوذة والتساهل مع أصحابها، والتضييق على الإعلام الحر ومحاربة أصحاب القلم والرأي والفكر ودعاة العقلانية والتنوير... فما نراه اليوم، هو أن الجيش نزل إلى الشوارع لفرض احترام الإجراءات الصحية، لكن ما لا نراه هو أن الوعي قادر على أن يعفي الجيش- وحتى القياد والشيوخ والمقدمين، بل والأطباء- من هذا العمل، وأن ينجز مهمة محاربة الفيروس في ظرف وجيز للغاية. وما لا نراه كذلك، في هذا الباب، هو تصفية دور الوسطاء السياسيين والاجتماعيين، كالأحزاب السياسية والنقابات وجمعيات المجتمع المدني، وإفراغ هيئاتهم من "تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام"، ومن القدرة على "التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة"، كما ينص على ذلك الفصل السابع من دستور سنة 2011، مع ما يعنيه ذلك من إعاقة الانتقال إلى الديمقراطية والعدالة والكرامة والحرية... يمكن إذا، بثنائية الظاهر والخفي، أن ننظر مثلا إلى قضية الاعتقالات والمحاكمات التي جرت منذ سنة 2017 إلى اليوم. فما نراه هو اعتقال مواطنين ومواطنات طالبوا بحقوق مدنية، مثل الاستشفاء والتمدرس وإنجاز بنيات تحتية والحق في العمل وإعمال مبدأ تكافؤ الفرص... هنا، لا يخفى على أحد الأحكام القاسية التي صدرت في حق معتقلي الريف وبعض الصحافيين. وما نراه، في المقابل، هو غض الطرف عن فاسدين أدانتهم تقارير مجلس الحسابات، وهو مؤسسة دستورية رسمية، إدانة واضحة. لكن ما لا نراه يكمن خلف الأبعاد التي تحيل عليها شكوى إدريس جطو من إهمال تقارير هذا المجلس، التي تكتسي أهمية قصوى لاقتصاد المغرب، حسب تعبير المشتكي. فالخفي هنا يكمن في تلابيب التعليمات والإملاءات والمصالح المتبادلة ومراكمتها (وما حادثة "عطيني نعطيك" ببعيدة عنا). على هذا النحو، يمكن أن نبحث عن مظاهر الظاهر والباطن، المعلن والمستتر، وأن نجد عشرات المفارقات والتناقضات بين المسرح والكواليس: بين الميزانيات المعلنة والصناديق السوداء، بين إرادة المواطنين وانتظاراتهم وتطلعاتهم ومصالح الدولة العميقة وأطماع البورجوازية المخزنية ولوبي الاقتصاد الداخلي والخارجي، بين الثقافة والعلم والمعرفة والرأي المتنور والتضبيع والتجهيل والتسطيح، بين التعليم الوطني الحر والمدارس الخاصة، بين الفيروس وإجراءات محاربته، بين المركز والهامش، إلخ. لكن الغريب هو صمت النخبة السياسية والثقافية والمدنية المريب تجاه النتائج الكارثية التي أفرزتها كولسة السياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها. إذ يلاحظ أنه كلما تعمق صمتها، إلا واستفحل ما لا نراه.