انطلقت جولة ثانية من الحوار الليبي في بوزنيقة يوم الجمعة 2 أكتوبر، بعد تأجيلات متتالية تعكس الخلافات بين الأطراف التي تمثل كلا من مجلس النواب في طبرق، والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس. مازال جدول أعمال الحوار يدور حول معايير التعيين في المناصب السيادية، تطبيقا للمادة 15 من اتفاق الصخيرات، رغم التوصل إلى اتفاق بهذا الشأن في الجولة الأولى التي عقدت بين 6 و10 شتنبر. ويبدو أن الخلافات الداخلية والتدخلات الخارجية مازالت عائقا كبيرا أمام التوصل إلى اتفاق يوحد المؤسسات السيادية، ويهيئ الشروط للتوصل إلى حل سياسي شامل، ولهذا، يبدو الحوار الليبي في بوزنيقة كأنه يدور في حلقة مفرغة. فما جدوى إعلان اتفاق «شامل» على معايير التعيين في المناصب، ثم العودة إلى الحوار بشأن هذه المعايير بعد بضعة أسابيع، مع التركيز على شخصية محافظ البنك المركزي. لقد كان منتظرا التهييء لحضور كل من رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، للمغرب لتوقيعمحضر الاتفاق، تمهيدا لتطبيقه، بتعيين شخصيات تتميز بالكفاءة والنزاهة في هذه المناصب بعيدا عن الولاء لهذه الجهة أو تلك، وتهييء الظروف لمفاوضات سياسية تمهد للانتخابات وإفراز حكومة ليبية موحدة تدبر مؤسسات موحدة، وتخدم مصلحة الشعب الليبي الذي يعاني. لكن، بعد مرور أسابيع على إعلان اتفاق بوزنيقة، ظهرت أطراف تنتقد الاتفاق، سواء جماعات مسلحة أو أطراف أخرى سياسية، مثل مجلس النواب في طرابلس،الذي يرى نفسه مبعدا عن المفاوضات، علما أن أغلبية أعضاء مجلس النواب يوجدون في طرابلس، ولا يجتمعون بنظرائهم في طبرق، وهناك من يطلب نقل مقر البنك المركزي إلى خارج العاصمة، وهناك من يرفض تولي شخصيات موالية للطرف الآخر رئاسة البنك. أي أن مشكل الثقة مازال قائما، ويهدد بعودة الأزمة إلى نقطة الصفر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك مسارات أخرى للحوار أطلقت بالتوازي مع الحوار في المغرب، خاصة في مصر، حيث تجري مفاوضات غير رسمية بين ممثلين عن مجلس الدولة ومجلس النواب، تتعلق بجوانب عسكرية، فضلا عن المسار الذي ترعاه دول كبرى بخصوص الاتفاق العسكري. فكيف وصلت ليبيا إلى هذه الأزمة؟ وهل هناك إمكانية للتوصل إلى حل سياسي في ظل هذه التعقيدات؟ منذ سقوط القذافي في 2011، تحولت ليبيا إلى ساحة للفوضى، وانتشرت المظاهر المسلحة، وعجزت الأطراف السياسية عن التوافق على شكل النظام السياسي في البلاد، فجاءت مبادرة المغرب لاستضافة الحوار الليبي في الصخيرات سنة 2015، والذي جرى التمهيد له سنتين قبل ذلك، وفعلا جرى الشروع في تنفيذ الاتفاق، ونتجت عنه المؤسسات الليبية القائمة اليوم، وهي حكومة الوفاق الوطني، والمجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، وهي المؤسسات التي لها شرعية إلى حد الآن. ولكن وقعت خلافات حول بعض بنود الاتفاق عرقلت تنفيذه، وكان يفترض إطلاق مفاوضات لتعديلها أو تحسينها، لكن، تدخلت قوى دولية وإقليمية لدعم الجنرال المتقاعد خليفة حفتر للسيطرة على البلاد بالقوة، وفرض نظام حكم عسكري، وتمكن حفتر من الحصول على «الشرعية» بتعيينه من لدن عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب،قائدا للجيش، ونجح في السيطرة على الشرق الليبي والهلال النفطي، وعين حكومة غير معترف بها من لدن الأممالمتحدة، رغم دعمها من قوى إقليمية. ورغم الانقسام بين الشرق والغرب، كانت هناك اتصالات بين حكومة الوفاق،التي يرأسها فائز السراج، والجنرال حفتر، وأطراف أخرى لإجراء حوار تحت رعاية الأممالمتحدة للتوصل إلى اتفاق، وجرت لقاءات تحضيرية لتنظيم مؤتمر كبير برعاية الأممالمتحدة في أبريل 2019 في مدينة غدامس في ليبيا، هدفه وضع خريطة طريق للخروج من الأزمة، لكن حفتر استبق المؤتمر، وباغت الجميع بهجوم عسكري على طرابلس بهدف السيطرة عليها، وإعلان نفسه حاكما لليبيا، فاندلعت حرب مدمرة استمرت سنتين تدخلت فيها قوى دولية وإقليمية، ولم تتوقف إلا بعدما انقلبت الكفة بالتدخل التركي لصالح حكومة الوفاق. وجاء مؤتمر برلين في 19 يناير 2020، ليعلن وقف إطلاق النار ووقف توريد السلاح وإطلاق مسار سياسي. ضمن هذا السياق عادت الأطراف الليبية للحوار في المغرب، وهو سياق تميز باستمرار ثلاثة أمور سلبية؛ أولها انعدام الثقة بين الأطراف بسبب ماضي الحرب والولاءات الأجنبية، وثانيها استمرار التدخل الأجنبي، وثالثها، استمرار توريد السلاحللطرفين. هذا الوضع يعقد مهمة التوصل إلى اتفاق سياسي بين الأطراف،إلا إذا اقتنعت الأطراف الدولية بضرورة رفع يدها وترك الليبيين يتفقون وحدهم على مستقبل بلدهم.