تواترت على المغرب في الشهور الأخيرة أحداث مست سؤال الهوية من منطلق الإحالة الدينية والمشترك أو المفترق من القيم والعادات والتقاليد، وبقدر ما يفضي سؤال الهوية إلى الكشف عن ثنايا الذات الجماعية، بقدر ما يركب ذلك من أخطار قد تهدد تماسك المجتمع مستقبلا في سياق إقليمي وجهوي أصبح فيه الاختلاف الإثني والمذهبي والديني وغيره، واجهات للقتل وتدمير مآثر حضارات دامت قرونا. المغرب بلد خلق من التاريخ والجغرافية وبحكم موقعه في «أقصى المعمور» يجاور «بحر الظلمات» ( المحيط الأطلسي)، تحول إلى ملتقى للحضارات القديمة والديانات والمذاهب، وفرض هذا الواقع على سكانه ومنذ زمن سحيق قيمة التعايش والقبول بالآخر، هكذا ولدت جذور الهوية المغربية. استقبل المغرب على أرضه موجات بشرية من الشرق ومن المتوسط ومن إفريقيا جنوب الصحراء، ومن غرب أوروبا، وتكونت ممالك وإمارات في الشمال وعلى ضفاف واد درعة ونون، وتعايشت فيه الديانتان اليهودية والمسيحية وحين حل الإسلام بأرض المغرب وقع تمازج مجتمعي كبير بين اليهود والمسلمين، وكثير من آثار مدننا العتيقة مازالت تحمل شواهد من هذا المشترك، وكتبت مئات الكتب عن «البلديين» و»الإسلاميين» وهم أهل الذمة الذين دخلوا الإسلام. وانضاف الأندلسيون، مسلمون ويهود، إلى قائمة مكونات المجتمع، تم تبعتهم طوائف من إيطاليا وإنجلترا والفلاندر والبرتغاليين والهولنديين وغيرهم ممن كان يشكل لهم المغرب جنة مقابل ما كانوا يعيشونه من حروب واضطهاد في أوروبا. في مدن وبوادي المغرب العتيقة، من المرابطين إلى العلويين، نمت كنائس مسيحية وبيع يهودية، وترجمت آلاف الوثائق عمق التعايش بين مكونات المجتمع المغربي. صقلت الهوية المغربية مع ما عرف في التاريخ بالهجمات الإيبيرية، وبزغ مفهوم «الدفاع عن دار الإسلام»، وارتبطت الهوية بالمجال جغرافي وبالمشترك الديني، ولازم فعل الدفاع عن التراب مفهوم الهوية ومشروعية بناء الدولة في العهدين السعدي والعلوي. واستقر المغرب منذ القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي على المذهب المالكي السني، والذي احتضن فيما بعد الفكر الصوفي، وشكلت الزوايا في القرن السادس عشر مؤطرا للمجتمع في حماية الذات والوطن، كل هذا في سياق مؤسسة الدولة المستمرة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا. في هذا السياق نما اللسان الدارج المغربي، الجامع بين اللفظ اللغوي العربي وبنية اللسان الأمازيغي، وظهرت وثائق مكتوبة ب»المغربية» منذ القرن السادس عشر، خاصة ما ارتبط منها بالتاريخ التقني، وبرزت قيم احتضان الوافد، وكان الاحتفاء بالضيف من خلال «الأكل»، تعبيرا عن تعظيمه وإكرامه. المغرب تاريخا وجغرافية وأنسنة محكوم عليه بالبقاء في هذا المنظور المنفتح على الجميع، وحيث تسود قيم التسامح والقبول بالآخر، والمغرب امتنع عن اختراق الآخر فقط، والآخر هو الاحتلال الاستعماري أيا كان لونه ورائحته، فلم يدم فيه الاستعمار عمليا إلا أربعة عقود ونيف، وفي مناطق كبيرة لم يتجاوز فيها حضور الاستعمار أكثر من عقدين. هكذا تعددت تعبيرات الهوية العميقة من خلال العمران واللباس والطبخ والغناء والرقص والأدب والفكر، فالأحادية والمرجعية الوحيدة والأصولية المقسمة للعالم إلى شطرين، أنا والآخر، لم تجد لها مكانا داخل التاريخ المغربي رغم الكثير من الفترات المؤلمة التي مر منها المغرب. مغرب اليوم منفتح على العالم برمته باختلاف توجهاته وقيمه، لأن بناءه الاقتصادي يعتمد بالخصوص على مجالات لها ارتباط بالخارج، و»تمدد» المغاربة، من خلال التجنيس في دول لها قيم تختلف عما يجري في بلادنا، واستقر عشرات الآلاف من الغربيين في مدن المغرب للعمل، أو حبا في شمسه وطعامه ودفئ علاقاته الاجتماعية. ولذلك تعرف بلادنا طفو تمظهرات اجتماعية كانت مستترة داخل مجتمعاتنا، أو وفدت عبر سلوكيات سائحين ومقيمين. ولعب الإعلام دورا كبيرا في «تأطير» النقاش العمومي حول أحداث وقعت بالخصوص في مدن معينة. حجاب المرأة في عين الرجل، والموقف هنا وهناك هو تعبير عن تربية جنسية معينة لا ترى في المرأة إلا الجسد، وعندما تطفو الرغبات الشخصية، وتوظف أحداث معينة في حسابات سياسية، فانتظر العجب. إنه إشكال مرتبط بقدرة المجتمع حاليا في الربط بين تموقعه الجديد وبروز قيم «جديدة» والإمساك بمرجعيات «قديمة»، ومن هنا نفهم النقاش الذي أثير حول «الزين اللي فيك» وسؤال جرأة الخطاب وواقع الدعارة و»مسؤولية» المخرج في «الاعتداء» على شعور وقيم فئات داخل المجتمع المغربي، وحرية وحدود التعبير، ثم توالت الأحداث، من جنيفر لوبيز إلى حادثة فاس، مرورا بواقعتي أنزا وإنزكان وحوادث أخرى وقعت في مدن أخرى. تدبير إشكال الإمساك بين مرجعيتين هو لب إشكال النقاش العمومي، إن على المستوى الشعبي أو مؤسسات الدولة. الأمر ليس بالشيء الهين، فالإخلال بالحياء، مصطلح هيامي يأخذ شكل الواقع المتغير من مكان لآخر، بل حتى داخل المدينة الواحدة، ما هو عادي في حي ما يصبح فضيحة في حي آخر، وهذا وحده دليل على نسبية القيم التي تختلف باختلاف المستويات الاجتماعية والمرجعيات والمستوى الثقافي، وليس الدراسي، ويصبح الأمر في نهاية المطاف نسبيا ومتغيرا. المنتسبون إلى المؤسسات الأمنية والقضائية وغيرها هم جزء من المجتمع، وقد يتصرف أحدهم انطلاقا من «السلطة التقديرية» التي وفرها له «المشرع»، ومسؤولية مؤسسات الدولة في الاجتهاد كبيرة، حتى لا تختلط الأمور بين الذاتي والشخصي مع توازن وسلامة المجتمع. سؤال الديني في هذه القضايا يحتم على فقهائنا الاجتهاد للبحث عن أجوبة لأسئلة آنية، القرآن والسنة، مرجعيتان لكافة المسلمين، لكن تاريخ المجتمعات العربية الإسلامية هو تاريخ تكييف الأصول مع مكونات وثقافات المجتمعات، ومن هنا برزت الخريطة الفقهية المتنوعة، والمتناقضة أحيانا. وتعددت المذاهب بتعدد الإحالات الحضارية، والفقه هو تعبير عن معادلة الإمساك بين الأصل والمتجدد، والفقه نتاج بشري يستند إلى القرآن والسنة، أي ارتباط المتحول بالثابت، وعندما يأتي أحد ويقول إن هذا ليس من ديننا، فهو اجتهاد خاص به، وبقدر غياب المؤسسات الفقهية، وتدبير الإفتاء على مستوى المبادرة، بقدر ما تتاح الفرصة لغلبة الخاص على العام، والاستثناء على القاعدة، والزمني على الأبدي، فالاجتهاد الفقهي عمل نبيل لتكييف المعتقد مع المستجد، والقرآن والسنة فوق كل اعتبار زمني، فهما صالحان لكل زمان ومكان، ومن هنا الفارق. والمذهب المالكي في الغرب الإسلامي هو أكثر المذاهب إنتاجا للنوازل، وهو تعبير عن حيوية المجتمعات المالكية في تدبير اليومي المتجدد. مسؤولية الدولة قائمة في هذا المنعطف، لأن المحيط الإقليمي أبرز ظاهرة توظيف الأوراق الإثنية والمذهبية والدينية في الصراعات التي تعصف بمجتمعات عدة، و»العمليات الاستباقية» تقتضي من مؤسسات الدولة التحرك ليبقى المغرب البلد الصلب العصي على اختراقات «التنظيمات» التي تبحث عن إقامة ولايات هنا، و»الدول» التي استفادت من إعصار «الربيع العربي» تريد استغلال «الحرية الفردية» لتحويل الثقافي إلى العرقي، وزرع بذور للشقاق قد تنمو مستقبلا، ومن هنا الأخطار الاستراتيجية التي تهدد المغرب. كثيرة هي الأشياء الصغيرة التي تتحول إلى ظاهرة، وكما يقول خبراء الأمن، المعلومة الصغيرة قد تكشف عن الأشياء الكبيرة، ما يجري في المغرب، من أحداث هنا وهناك، يسرق من الدولة وظائفها، فيصبح الفرد هو الدولة، وهنا تقع الكارثة. محلل سياسي