لم يصدق أحد في مصر وخارجها أن المحكمة الإدارية التابعة لمجلس الدولة تستطيع أن تحكم ببطلان قرار الرئيس، عبد الفتاح السيسي، التنازل عن جزيرتي تيران وصنافر للمملكة العربية السعودية بدون ضوء أخضر من الجنرال، الذي ألحق القضاء المصري بأجهزة الأمن، حتى صار القضاة موظفين ينفذون التعليمات، ويوزعون أحكام الإعدام على المعارضين السياسيين بشكل أذهل العالم في قدرة جيش في القرن ال21 على تنظيم انقلاب عسكري على رئيس منتخب، وعلى نصب المشانق لمن بقي من معارضيه حيا بعد مجزرة رابعة، وسلسلة الاغتيالات التي نظمتها أجهزة الأمن بشكل يبعث على الصدمة، كما هو موثق بالأسماء والوقائع والأرقام في تقارير المنظمات الحقوقية العالمية. ضمير القضاة هاجر من مصر منذ دخل السيسي إلى القصر الجمهوري، ولهذا لم يعد أحد يستغرب الأحكام الجائرة لهذا القضاء، ولم يصدق أحد أن هناك قاضيا في مصر اليوم سيبطل هدية السيسي للملك سلمان، التي هي عبارة عن جزيرتين، مقابل المزيد من المليارات ليبقى مشروع الانقلاب واقفا على رجليه أطول مدة ممكنة. فاجأ تنازل الحكومة المصرية عن الجزيرتين الواقعتين في مدخل خليج العقبة، في أبريل الماضي، الرأي العام المصري، بمن فيهم مؤيدو السيسي، ولقي قرار مقايضة أرض مصرية بالمال معارضة شديدة من الغالبية الساحقة من المصريين، التي رأت في هذا القرار إهانة لكبرياء مصر، وتفريطا في سيادة البلد من قبل نظام عسكري جاء إلى السلطة بمبرر منع الرئيس مرسي من بيع جزء من أرض سيناء لقطر، أو السماح بتوطين الفلسطينيين هناك، وهو الادعاء الذي ثبت زيفه فيما بعد، حيث كان كذبة كبيرة من الأجهزة الأمنية التي صارت الوكالة الوحيدة التي تزود وسائل الإعلام بالأخبار المسمومة والإشاعات وبالونات الاختبار… حتى إن مظاهرات خرجت في شوارع مصر ضد السيسي رافعة شعارا من فيلم مصري مشهور يقول: «عواد باع الأرض يا أولاد…»، في ما يشبه ارتكاب الخطيئة الكبرى. المتابعون قرؤوا احتمالين من وراء قرار مجلس الدولة إلغاء اتفاقية إعادة ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، الذي وقعه السيسي مع الملك سلمان بمناسبة زيارته الرسمية للقاهرة في أبريل الماضي؛ الاحتمال الأول يقول إن الجنرال فوجئ بحجم الصدمة التي خلفها قراره في الشارع المصري، وإنه لم يجد طريقة للتراجع عنه غير السماح للقضاء الإداري بإسقاط الاتفاق مع السعودية، وإن هذا أقصر طريق للتخلص من قرار لقي معارضة كبيرة في الشارع، وأصبح تنفيذه يهدد سلامة النظام. والتفسير الثاني يقول إن السيسي وصل إلى نقطة اللاعودة مع الرأي العام، ولم يعد يهمه رأي الناس في حكمه مادام قد فرض قبضته الأمنية على البلاد، وأن إلغاء المحكمة الإدارية صفقة بيع الجزيرتين المصريتين للسعودية هدفه (الإلغاء) هو مراجعة سعر البيع ليس أكثر، وأن السيسي مازال طامعا في «الرز» الخليجي، وأن 60 مليار دولار التي قدمتها دول الخليج إلى الآن لمصر، من أجل تمويل الانقلاب على حكم الإخوان ووقف زحف الربيع العربي إلى باقي البلدان العربية، ثمن غير كافٍ، وأن السيسي وفريقه ليس لهما من خطة اقتصادية أو تنموية لإدارة البلد غير ابتزاز دول الخليج التي لم تكن تتوقع أن انقلابا عسكريا في مصر سيكلف كل هذه الأموال وكل هذه الدماء، وكل هذا الانهيار في سمعة مصر ومكانتها في المنطقة والعالم. استولى العسكر على السلطة في مصر منذ ثلاث سنوات، وأطاحوا بحكم رئيس منتخب، مهما اختلف المراقبون حول كفاءته وقدرة جماعته على حكم أكبر بلد في العالم العربي، لكنه رئيس منتخب جاء بإرادة الناس ويجب أن يذهب بإرادة الناس، والحكم بإعدامه لن يغير شيئا في المعادلة. لكن، مع كل الدماء التي سالت وأحكام الإعدام التي نطق بها القضاء، فإن السيسي لم يستطع أن يتقدم بمصر ولو خطوة واحدة إلى الأمام.. إنه يشبه شخصا استولى على قطار في نصف الطريق، ورمى بسائقه خارج قمرة القيادة، وأحكم سلطته على الركاب، لكن الجميع فوجئ بأن السائق الجديد لم يستطع أن يحرك القطار لإكمال رحلته، فتحول الجميع إلى رهائن في عربات جامدة لا تتحرك. هذا هو وضع مصر اليوم.. إنها خارج الزمن السياسي وخارج قوانين التطور. إنها جالسة في قاعة انتظار كبيرة، وكل يوم يمر عليها تكبر فيه فاتورة خروجها من المحنة. مصر بلاد السخرية والنكتة بامتياز، وفيها يحكي الناس عن عضو في البرلمان المصري طاعن في السن كان نائما وقت دخول الرئيس السيسي إلى البرلمان، فالتفت إليه زميل يجلس إلى جانبه وقال له: «استيقظ يا عم، الرئيس السيسي دخل»، فالتفت الشيخ باستغراب وقال: «من السيسي؟»، فرد زميله: «السيسي هو الذي جاء بعد مرسي»، فسأل الشيخ ثانية: «من مرسي؟»، فرد عليه: «الذي جاء بعد مبارك»، فرجع الشيخ للسؤال: «من مبارك؟»، فرد زميله مستغربا: «الله، ذا الريس الذي جاء بعد السادات»، فسأل الشيخ مرة أخرى: «من السادات؟»، قال له صديقه: «الرئيس الذي جاء بعد جمال عبد الناصر؟»، فسأل الشيخ مرة أخرى: «من جمال عبد الناصر؟»، فرد زميله: «الله، ذا اللي عمل انقلاب على الملك فاروق؟»، فقال الشيخ: «ومن الملك فاروق؟»، فرد صاحبنا، وقد نفد صبره: «الله، الملك فاروق هو ابن الملك فواد»، فرد الشيخ: «الله، هو الملك فواد خلف ولد؟».