في مثل هذا اليوم 30 أبريل من سنة 1998 توفي الشاعر السوري العملاق نزار قباني عن عمر يناهز 76 عاما ...... كانت للشاعر الراحل نجومية عجيبة حقا يصعب جدا أن يصل إليها كاتب أو أديب في مجتمع عربي لا يقرأ ، و إن قرأ اتجهت بوصلته غالبا نحو نوع " آخر " من القراءات ليس الشعر أحدها بالتأكيد .... شهرة نزار قباني لا تقارن مع شهرة أي أديب آخر ( باستثناء نجيب محفوظ نسبيا ) ، و إنما تقارن مع نجوم السينما و الغناء و الرياضة و الإعلانات و كل ما يميز المجتمع الاستهلاكي ، فهل كان شعر الشامي الارستقراطي الوسيم مادة استهلاكية أخرى وُضعت بين دفتي كتاب ؟ ..... نزار قباني شاعر فذ و موهوب و مثقف لا يشق له غبار ، نهل من التراث الشعري العربي و من الكلاسيكية الغربية و مازج بينهما بأسلوبه النزاري الخاص على طريقة السهل الممتنع ببساطة و رشاقة أخاذة .... و لكن هل كان هو الشاعر الوحيد العملاق في زمانه حتى يكون له هذا الانتشار الاستثنائي ؟ ..... في غالب الأمر نجومية نزار قباني كانت تعود لثلاثة أسباب .... - أولا غزارة و استمرارية إنتاجه ، فقد كتب الرجل على مدار نصف قرن عشرات الدواوين الصغرى و الكبرى و المتوسطة ، و أحيى مئات الأمسيات الشعرية عبر العالم .... - ثانيا بساطة لغته و رشاقتها و ابتعادها عن التعقيد مما جعل قراءته متاحة لأغلب الشرائح الثقافية ، يقرأه الطالب و التلميذ كما يقرأه الناقد و الأكاديمي ..... - ثالثا ، و لعل هذا أهم سبب ، هو نمط الشعر الغنائي الذي طبع الكثير من قصائده ، مقاطع ايقاعية رشيقة قصيرة ، الأمر الذي جعل أغلب الملحنين الكبار يشتغلون على كلماته و يغني قصائده العاطفية كبار المطربين ، من محمد عبد الوهاب و أم كلثوم و عبد الحليم و نجاة الصغيرة و فيروز حتى كاظم الساهر و ماجدة الرومي و أصالة ...... قصائد نزار المغناة عبر عقود جعلت للرجل شهرة و انتشارا عظيمين ..... شعر نزار قباني كان في أغلبه شعرا رومنسيا يتغنى بالأنثى و الحب بطريقة راقية فريدة ، حتى ارتبط اسمه بلقب " شاعر المرأة ، و لم يكن الرجل في حواراته ينكر هذا او يجد فيه غضاضة ما ، فقد قال غير ما مرة أن قسما كبيرا من تخلفنا في العالم العربي يرجع لكوننا أهملنا هذا ( الكائن الجميل ) ، و أن قضية المرأة عنوان و رمز لكل قضايانا الأخرى ....... بل اكثر من ذلك تجاوز نزار هذا ليبدع بطريقة غير مسبوقة في تقمص المرأة نفسها و الحديث بلسانها في قصائده " لاجنسانية الشاعر بديلا عن لاجنسانية الأدب " ، و قد نجح في ذلك نجاحا مبهرا و ترك مخزونا من القصائد الرائعة التي يتقمص فيها الشاعر " الذكر " دور الأنثى بحرفية هائلة ...... بيد ان نزار قباني ركن المرأة على الرف في أحيان كثيرة او جعلها مجرد خلفية تظهر و تختفي في قصائده السياسية .... في رأيي أن نزار قباني لو تُرك على سجيته لما كتب سوى عن المرأة ، و لكن بعض المفاصل التاريخية جعلت شعره ينحو منحى سياسيا - شأن أغلب شعراء المرحلة - فكانت نكسة 67 زلزالا ضرب الانتلجنسيا العربية و معها نزار ، فألف ديوانه الغاضب الشهير ( هوامش على دفتر النكسة ) ، و بعدها كتب الكثير من الشعر السياسي في مراحل عديدة ، بعد وفاة زوجته بلقيس مثلا في حادث انفجار السفارة العراقية ببيروت سنة 82 ، و بعد اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين و الاسرائيليين سنة 93 .... بعض قصائده السياسية أثارت الجدل وقتها و تعرض معها لعاصفة من الغضب و دعوات للمقاطعة ، مثل قصيدته الشهيرة " متى يعلنون وفاة العرب " ، و قصيدة " المهرولون " التي تنتقد بحدة و سخرية اتفاقية أوسلو ، و لكن مجمل شعره السياسي لم يرق إلى باقي دواوينه الرومنسية ، حيث كانت كلماته الحارقة تتناثر يمينا و يسارا لتحرق معها الشعر نفسه في أحيان كثيرة ..... شعراء كثيرون عاصروا نزار و ربما كان بعضهم " أشعر " منه ، فهل يستحق نزار قباني النجومية التي وصل إليها ؟ .... بالتأكيد نعم ، و على هذا الأمر أن يبهجنا حقا ، ظاهرة صحية فعلا أن يصل الأدباء إلى شهرة الممثلين و المطربين و الرياضيين ، و جميل أيضا أن نسمع الشارع العربي يدندن بأغنية : إني خيرتك فاختاري ، ما بين الموت على صدري أو فوق دفاتر أشعاري ، بدل موجات الإسفاف و السوقية ..... و لكن الشعر في أحيان كثيرة هو من خسر نزار ، الرجل يقول في مقدمة أحد دواوينه : راهنت أن أجعل من الشعر خبزا للجميع ...... رهان نزار قباني المستحيل هو ما جعله يخرج من الشعر نحو " الجميع " ، بدل أن يجذب " الجميع " نحو الشعر .... و مع الأسف ، الشعر لم يكن أبد خبزا كما أعتقد شاعرنا الوسيم .....