"هناك كحل للعين تضاف له مرارة الذئب ومرارة النسر"، يقول عبد السلام أويحيى، المتخصص في جمع المعادن السطحية في منطقة مرزوكة (إقليمالرشيدية)، الذي فاجأ سامعيه الذين اندهشوا لهذه المعلومة الفريدة من نوعها عن طرق صناعة "الكحل الصحراوي". هذه الطريقة في التحضير ليست جديدة بالنسبة لمن يصنعون الكحل في الجنوب الشرقي بالمغرب، خاصة في منطقة مرزوكة القريبة من مدينة الرشيدية. فقد كان المغاربة قديما يصيدون الذئاب والنسور بعد رحلة طويلة في الصحراء من أجل استعمال "مرارتيهما" في إضافة مكونات جديدة للكحل الذي يستعمل في الزينة بالنسبة للمرأة وكدواء لبعض أمراض العين التي كانت منتشرة في المناطق الصحراوية. أما حاليا فلا تستعمل هذه المكونات في خليط "الكحل المر" الذي يعد من الأنواع المتداولة في الجنوب الشرقي، لكن بطريقة أخرى باستخدام مواد جديدة مستخلصة من الطبيعة تضاف إلى المعدن الذي ينتشر في عدة أماكن بالجنوب الشرقي، ويتم جمعه وغسله ونفض العديد من العوالق به لكي يصبح كحلا صالحا للاستعمال بعد تخزينه بشكل صحي كي لا تتسرب إليه أي أتربة أو غبار لأن الكحل سري التأثر. "الكحل المر والحار كلهم مزيانين"، يقول عبد السلام أويحيى، إلا أن "الكحل المر" يعتبر نوعا متداولا على نطاق واسع في الجنوب الشرقي بالمغرب، إذ تضاف إليه بعض الأعشاب الطبيعية المتوفرة بالمنطقة بشكل كبير، مضيفا "نبحث عنه في سطح الأرض ونختار المعدن الذي لا تشوبه شائبة، ونعطيه للنساء اللواتي يسمينه بصنع الكحل الحلو والمر". أويحيى من الذين يبحثون عن النيازك في مرزوكة والنواحي، ويصادف في طريق بحثه المضني ولعدة أيام المعدن الذي يصنع منه كحل الجنوب الشرقي، وهو ينقسم إلى نوعين، الأول "سطحي" عبارة عن حجر يوجد فوق الأرض يسمى "تازولت" أو "تازورت بطاطا"، والثاني يستخرج من معادن بعمق بأكثر من متر تحت الأرض. هذا الاختيار لا يأتي اعتباطا، بل لمقاربة تقليدية ونظرة معينة للكحل التقليدي في المنطقة، حيث يؤكد زايد جرو، الباحث المهتم بالشأن الثقافي في جهة درعة تافيلالت، أنه "عماد للتزيين ويجب أن تراعى في صنعه عدة شروط حتى لا يؤذي العين، أولها حسن اختيار الحجر المعدني الخالص غير الممزوج بالتراب أو الأحجار التي يمكن أن تلحق ضررا بالعين، ويتم جلب حجر الكحل إما من مقالع استخراج المعادن بجماعتي الطاوس وألنيف، أو البحث عنه في الخلاء على مسافة أقرب من تحت الأرض أو على السطح، مع أخذ عينات منه من أجل صناعة هذا المنتوج التقليدي". عملية صناعة الكحل التقليدي (المسوس) تبدأ من خلال طحن معدن "تازولت" المتواجد بكثرة في مرزوكة (الجماعة الترابية الطاوس)، ليس بواسطة آلة معينة بل باستعمال "المهراز" التقليدي ووضعه في قطعة قماش للحصول على مسحوق ناعم بعد تنقيته بعناية فائقة، ليوضع في علب بلاستيكية محكمة الإغلاق، أو في "صرة" بلاستيكية أو من الثوب كي لا يتعرض للغبار. وقبل ذلك ينبغي اختيار نوعية الكحل هل هو "الحار" أم "المسوس"، حيث يصنع هذا الأخير من المعدن الخالص وغالبا كبريت الرصاص دون إضافة أي مكونات أخرى، أما "الحار" فهو الذي تضاف إليه مواد جديدة، حيث أكد زايد جرو أنه يمزج بمواد مثل نوى التمر أو الزيتون بعد حرقها ودقها، أو إضافة حجر أبيض يجلب من شواطئ البحر فينقى ويطحن حسب المتداول في بعض مناطق الجنوب الشرقي للمغرب. ويقال إن الكحل "الحار" تضاف إليه مواد تساعد في العلاج من أمراض الجلالة (الماء الأبيض في العين)، فحسب نعيمة إمغري رئيسة تعاونية "تلوردت" لإنتاج مواد التجميل الطبيعية بقلعة مكونة (إقليم تنغير)، فإن الكحل المضاف إليه نواة التمر وبعض الزعفران يقوي رموش العين ويعالج حساسيتها. ولا يستعمل هذا النوع للعلاج فقط، بل أيضا للتجميل وتقوية أشفار العين، إذ من الضروري أن تتوفر النساء في بيوتهن، في عدد من المناطق بالجنوب الشرقي، على ثلاثي "الكحل" و"الحناء" و"البخور"، في استحضار لتقاليد عريقة. "هاكي كحلي عينك" عبارة تستقبل النساء بها ضيفاتهن كنوع من الإكرام مع منح كمية منه قبل الخروج، ويقدم كهدية في الأعراس والمناسبات العائلية لأنه يرمز إلى الندرة والنظرة التقديرية الخالصة للمهدى إليه. ويؤكد سكان المنطقة أن الكحل التقليدي الطبيعي يساهم في تنقية العين، وبروزها، وحمايتها من بعض الالتهابات والتقرحات والملوثات الخارجية والطفيليات، وكذا من أشعة الشمس الحارقة بالصحراء، لاسيما في فصل الصيف حيث ترتفع درجة الحرارة بشكل كبير. ومادامت النساء تستعملنه بكثرة مقارنة بالرجال، فإن المصدر الأول له هن نساء الجنوب الشرقي اللواتي يشتهرن بصناعته وبالعناية الخاصة التي يولينها له خلال مراحله الأساسية قبل عرضه على الزبناء من شتى المناطق المغربية وعلى السياح الأجانب، فقد أبرزت نعيمة إمغري أن والدتها صفية آيت بنحمو هي المزود الرئيسي لتعاونية "تلوردت" من الكحل. وأشارت إلى أنها تلقت "الصنعة" وكيفية تحضير الكحل الجيد من سيدة توفيت مؤخرا اسمها " تاعبوريت" أدخلت هذا الإبداع إلى منطقة قلعة مكونة وكانت لها شهرة عالمية، ولها الفضل في تعلم نساء المنطقة كيفية العناية بالكحل واختيار المواد الأولية التي تخرج منتوجا صالحا للزينة والعلاج. وبفضل هذه المبادرات وغيرها من الأعمال التقليدية، أصبحت هذه التعاونية العائلية تشارك في معارض تنظم بمدن مغربية وفي أقاليم جهة درعة تافيلالت، وتساهم في توفير دخل ليد عاملة نسائية تساعد في الإنتاج الذي يقبل عليه المغاربة المقيمون بالخارج لكونه غير متوفر في بلدان الاستقبال. الإنتاج لدى نساء قلعة مكونة يختلف عن مناطق أخرى بالجنوب الشرقي، إذ يقمن بغسل المواد الأولية، وهي عبارة عن نوى التمر والزيتون، وتجفيفها ووضعها في إناء من النحاس على نار هادئة لمدة ساعة، ثم يتم تبريدها، وطحنها في "الرحى البلدي" لست مرات ليضاف إليها الزعفران. وصناعة الكحل من الإبداعات التقليدية التي لا تزال مستمرة لحد الآن في الجنوب الشرقي للمملكة، يضيف زايد جرو، حيث تقوم بتحضيره نساء لهن دراية كبيرة بهذا المجال، إذ يسهرن على الصنعة بعناية فائقة، من خلال "الدق على الحجر المعدني حتى يصبح طحينا أسود، ثم يغربل بقماش نقي ويوضع في رزم بلاستيكية صغيرة ليبقى خالصا غير مشوب بالتراب وثمنه زهيد ونفعه كبير". هؤلاء النسوة يصنعن الكحل ويرفقنه بمستلزمات أخرى لا محيد عنها، مثل "المرود" المصنوع من الخشب لكي تكتمل التركيبة المرافقة للكحل "الصحراوي" المنادى به في منطقة يغلب عليها الطابع الجاف، مقابل "كحل المدينة" المحضر في مناطق حضرية من قبل نساء اكتسبن تجربة في التسويق المباشر. إنه اهتمام متجذر في البنية التفكيرية للنساء في قلعة مكونة وباقي أقاليم جهة درعة تافيلالت، إذ يقول زايد جرو "لطالما اعتبرت النساء الشعر تاجا للحسن، فزينه وغذينه بالحناء، ولطالما اعتبرن العين نبعا للجمال فزينها بالكحل، ولطالما اعتبرن الأسنان جواهر الفم فزينها بالمسواك، واعتبرن البخور الطبيعية روائح طيبة فقطفن من النباتات أجملها وأجودها رائحة". وخلص إلى أن "الكحل والحناء والمسواك والبخور، هي مقومات الجمال بالجنوب الشرقي منذ القديم، ومازالت عماد الأنس والضيافة والكرم، فلا تكاد أسرة تخلو من هاته المكونات الطبيعية، ولا ينحصر الاستعمال على النساء فحسب، بل يشمل أيضا الرجال، لاسيما في المناسبات الدينية والأعراس والعقائق".