ثمة مأزق في خطاب البعض حول الحريات الفردية، يكشف عن حالة مشوبة من جهة بحيرة تجاه المستقبل، ومن جهة أخرى بحالة استماتة في الإبقاء على «عدو أو خصم» والحرص على تذكير به والنفخ فيه من جهة أخرى، دون الانتباه إلى أن المغرب هو في سياق تحولات سوسيولوجية عميقة تتجاوز النخب بمختلف تكويناتها إسلامية كانت أو علمانية أو يسارية أو ليبرالية، وتجعل من هذه الأخيرة مطالبة إما بالتكيف مع هذه التحولات وتجديد خطابها ومواقفها حتى تضمن استمرار تأثيرها، أو سيكون محكوما عليها بالانزواء والهامشية والبقاء مجرد صوت من الماضي. قد يكون الاستشراف السابق قاسيا على البعض من النخبة العلمانية، والتي لم تع بعد أن أولوية المرحلة في إرساء قواعد نظام ديموقراطي يضمن حقوق الجميع أغلبية وأقلية، ويؤسس لشروط التداول السلمي على السلطة التنفيذية، وأن استقرار ذلك سيحدد قواعد تأطير النقاش العمومي ومعه القرار السياسي والفعل التشريعي في القضايا الخلافية سواء تعلق الأمر بالحريات الفردية أو مكونات الهوية المغربية أو المرجعية الإسلامية للمغرب. من الواجب التذكير هنا بأن مثل هذا المخاض عرفته دول أخرى، ونجحت في الخروج منه عبر إعطاء الحق للمجتمع في تقنين الفضاء العام وما يهم ممارسة الحريات الفردية وذلك عبر مؤسساته المنتخبة ودون أن يخضع ذلك لمقولات الأغلبية والأقلية، وآخر النماذج ما حصل بداية هذا الشهر في الجمعية الوطنية الفرنسية عندما أقدمت مجموع قيادات الفرق البرلمانية على التصويت بإجماع نادر على قرار تجريم زبائن الدعارة، واعتماد قانون تصل عقوباته إلى الحبس بشهرين وغرامات مكلفة، بما يعني موقفا حاسما ضد أطروحة تقنين الدعارة وعوضا عن ذلك تجريمها وإن كانت اتفاقية ورضائية بين الطرفين وفك الارتباط بينها وبين الحريات الفردية، أي أن تجاوز شرنقة التوترات حول هذه القضايا يتم عبر اعتماد آليات تتيح انتظام مكونات المجتمع في مبادرات مدنية تحتضن النقاشات ومواقف الأقليات، كما تتيح تقنين المبادرة الشعبية لدفع السلطتين التنفيذية والتشريعية إلى اتخاد قرارات معنية تهم تقنين الفضاء العام وتوجيه العمل التشريعي في قضايا القيم والأسرة والأخلاق والحريات الفردية أو الجماعية كبعض الولايات في أمريكا أو إيطاليا أو غيرها من الدول الغربية سواء عبر عرائض أو استفتاءات شعبية أو ملتمسات تشريعية، وهي آليات مثلت الحل الممكن والناجح تاريخيا لتحقيق تدبير سلمي للخلاف في هذه القضايا والحيلولة دون تفكك المجتمع. لقد وضع المغرب رجله الأولى في هذا الطريق، وأقرت إرهاصات ذلك في دستور فاتح يوليوز وما نص عليه من حريات وقواعد لتقديم العرائض وتعزيز موقع المجتمع المدني ومؤسسات الديموقراطية التشاركية، وسيكون على النخب وقوى المجتمع أن تتكيف مع المرحلة الجديدة وأن تنتقل إلى الاشتغال وفق ما يتيحه من آليات وأن تتوقف عن العمل بمنطق الاستقواء بالأدوات السلطوية لفرض توجهات معينة، لأن تلك المرحلة في طريقها إلى الزوال، وذلك لمصلحة مرحلة جديدة قائمة على الحرية ومدى قدرة كل توجه فكري على تأطير المجتمع وبناء سند شعبي لمواقفه واختياراته وترجمة ذلك في السياسات العمومية وفق القواعد الديموقراطية وشروط صيانة السيادة الوطنية.