علم الدين بين الرواية والدراية قد يكون من المسلمات التي لا يناقش ولا يتردد فيها أحد أن العلم بالدين يقوم على ركنين كبيرين هما الرواية والدراية. فالرواية يقصد بها نقل القرآن والسنة من فرد لآخر أو لآخرين، ومن جيل لآخر، سواء بالمشافهة أو بالكتابة، مع يتطلبه ذلك من تحر وضبط ضمانا لسلامة المروي من الزيادة أو النقص أو التحريف، والدراية يقصد بها الفهم والتفقه في معاني النصوص المروية وأحكامها ومقتضياتها، فعلى هذا يقوم العلم بالدين عند المسلمين عامتهم وخاصتهم. غير أن المشكلة تكمن في التفصيل والتنزيل، وما يتبعهما من تحقيق وتطبيق؛ فنجد كثيرا من الناس من المعدودين علماء أو فقهاء، ومن المفكرين والمثقفين يخوضون في الدين وأحكامه وكتابه وسنته، برواية دون دراية، أو بدراية يحسبونها دون رواية، أو بتكثير أحد الركنين وتضخيمه مع تقليل الآخر وتحجيمه. وإذا كان الذين يتجاوزون الرواية ويجعلون الدين وأحكامه مجرد فكر ورأي، أو يهمشون الرواية حتى تصبح نصوصها مجرد جزيرات في بحر أفكارهم ومذاهبهم وتحليلاتهم، إذا كان هؤلاء قد ظلوا مهمشين ومتجاوزين بدرجة كبيرة عند عامة المسلمين، كما عند جمهور علمائهم، فإن الأمر ليس كذلك مع الذين يتجاوزون الدراية ويقللون من شأنها ويقصرون فيها اعتمادا على كثرة الحفظ والرواية. فنظرا لجلالة قدر القرآن الكريم والسنة النبوية، فإن الحفاظ والرواة للكتاب العزيز وللحديث الشريف، قد حظوا وحظي علمهم بتبجيل وتكريم بالغين عند المسلمين. وهم يستحقون ذلك. لكن المشكل الذي حصل ويحصل هو أن يصبح حفظ القرآن الكريم والتفنن في إتقان تجويده وترتيله، والإحاطة بقراءاته وحروفه، وأن يصبح حفظ الأحاديث والآثار بمتونها وأسانيدها وطرقها وصيغها، هو العلم وهو منتهى العلم، وأهله هم العلماء. إن الإغراق في الرواية والانهماك فيها، وإعلاء منزلة أصحابها مع ضعفهم وقصورهم أو تقصيرهم وتفريطهم في الدراية، يؤدي إلى أمرين كلاهما أسوأ من الآخر: 1 تعطيل المعاني التي يحتاج استخراجها إلى الدراية والتدبر والتفقه. 2 ترويج الفهم السطحي والظاهري والسقيم للدين ونصوصه. مما لاشك فيه أن في نصوص الدين كثيرا من المعاني والأحكام الواضحة القريبة المنال، ولا يحتاج إدراكها إلى كثير تفكر وتدبر. ولكن مما لاشك فيه أيضا أن الكثير من نصوص الدين وأحكامه تحتاج إلى كثير من التدبر والتفكير، ومن البحث والمدارسة. بل إن ما يكون ظاهرا واضحا من نصوص الدين وأحكامه، إذا تدبرناه وتدارسناه وقلبنا وجوهه، فإنه يعطينا أكثر مما تعطينا ظواهره وقطوفه الدانية، كما روى ابن عبد البر عن بعض علماء السلف أنه كان يقول "ثلاث أحبهن لي ولإخواني: هذا القرآن يتدبره الرجل ويتفكر فيه فيوشك أن يقع على علم لم يكن يعلمه. وهذه السنة يتطلبها ويسأل عنها. ويذر الناس إلا من خير" (جامع بيان العلم وفضله 2/35). فتدبر القرآن والسنة والتفكير فيهما ومدارستهما، كل هذا يعطي المزيد من العلم ويعطي سداد العلم. وهذه هي الدراية التي ينبغي ألا تنفك عنها الرواية. وقد أمر الله تعالى بتدبر القرآن الكريم وشنع على الذين لا يفعلون (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) سورة محمد 25 . فالتدبر شيء زائد على مجرد التلاوة والفهم الأولي الظاهري. وفي الحديث الصحيح >ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم..." الحديث. فجمع إلى التلاوة المدارسة، التي هي البحث والنقاش وتقليب النظر. وفي هذا تجاوز لمجرد المعاني اللغوية الحرفية والإدراكات الأولية. لأن هذه لا تحتاج إلى تدبر ولا مدارسة. على أن الدراية والتدبر والمدارسة لا تعني بالضرورة إبطال المعاني الظاهرية أو تعديلها. فقد تكون هذه مطابقة لتلك. وهذا هو الأصل. ولكنها تعني زيادة فهم وزيادة علم، وتعني استنفاد الطاقة الدلالية الكاملة للنص، بما في ذلك المعاني والدلالات المركبة من عدة نصوص. والمقصود عندي الآن هو إثبات ضرورة الدراية والدراسة المتدبرة لنصوص الشرع منفردة ومجتمعة، وأن الرواية وحدها مهما كثرت وتضخمت ليست هي العلم. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف "نضّر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها غيره. فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". فالحديث ينص على الوعي بالرواية قبل نقلها، وينص على أن الرواي قد يكون غير فقيه بما يرويه، أو قد يكون أقل فقها من غيره. وكل هذا مرجعه إلى الدراية وعدمها. وقديما كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول "إن العلم ليس بكثرة الرواية ولكنه نور جعله الله في القلوب" ويقول "العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل". (جامع بيان العلم 2/31). فالعلم في الحقيقة إنما يتجلى في البصيرة المستنيرة النافذة، وفيما تبصره من حقائق الأمور، وليس بكثرة الجمع وكثرة الحفظ وكثرة السرد. قال ابن الجوزي رحمه الله "فترى المحدث يكتب ويسمع خمسين سنة ويجمع الكتب ولا يدري ما فيها". (تلبيس إبليس 110). ومن هنا وجدنا الإمام الغزالي رحمه الله يوصي طالب العلم الشرعي بقوله: "فينبغي أن يكون شديد البحث عن أسرار الأعمال والأقوال، فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء للعلم ولا يكون عالما. ولذلك كان يقال: فلان من أوعية العلم. فلا يسمى عالما إذا كان من شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم والأسرار" (إحياء علوم الدين 1/94) أحمد الريسوني