إن الولوج إلى قطاعي التعليم العتيق والعصري بالمغرب، يؤدي حتما إلى التيهان، وفقدان شهية التعليم والتعلم. ويشعر الباحث التربوي (كما الأستاذ والتلميذ)، وكأنه ولج الأدغال، حيث لا ممرات ولا مسالك داخلها. ولا مرشدين ينتشلونه منها. تعليم يغرد خارج سرب حاجيات ومتطلبات الحياة المغربية بكل تجلياتها. والسبب طبعا ليس فقط في قصور أداء المدارس العتيقة والعصرية. وليس في غياب التأطير والتدبير والتنسيق بين المدارس العتيقة وأقسام التعليم الأولي، والابتدائي والثانوي. ولا في حاجتها إلى مناهج وبرامج هادفة، ورغبة أكيدة وصادقة لكل المشرفين عليها. ولكن في المبادرات الحكومية التعليمية الجديدة كذلك، التي تسير في اتجاه ضرب اللغة العربية والهوية المغربية. التي هي أساس التعليم العتيق. منها محاولات إقبار اللغة العربية، باتهامها باللغة العاجزة على نقل العلوم والتكنولوجيا، علما أنها مهد العلوم. وإبعادها يعني إبعاد كل ما يأتي من التعليم العتيق. علما أن العجز والقصور الحقيقيين مترسخان في عقول روادها العرب. فقد تم حصر مهام اللغة العربية داخل المدارس في التواصل العادي المبني على المعرفة بالحفظ والتلقين والتواصل. تمهيدا للقضاء عليها، وعلى هوية وتاريخ المغاربة. كما أن الشارع المغربي (كما العربي)، أنجب للغة العربية ما يشبه بالضرة (اللهجة العامية أو الدارجة)، التي باتت تنافسها ليس فقط في التواصل العادي داخل وخارج المنازل، بل حتى داخل المرافق العمومية والخاصة وعلى المنابر الإعلامية. كما أن هناك من يدعم التدريس بها. ومنها كذلك عدم التنسيق بخصوص المواد الدراسية المرتبطة بالدين والتاريخ والأخلاق والسلوك واللغات، بين المدرستين (العتيقة والعمومية). صحيح أن السلاطين والملوك الذين تعاقبوا على قيادة سفينة المغرب، كانوا جد حرصين على إيلاء أهمية كبرى للتعليم العتيق. على مستوى توفير الموارد البشرية (علماء الدين، الأساتذة المربين، الفقهاء، … ). والبنايات الخاصة بالتدريس والتلقين والإيواء، وتوفير العتاد التعليمي والغذائي. إلا أن مناهجها وبرامجها ذات أهداف ومرامي يغلب عليها الحذر والحيطة من الانفلات والانحراف. وهي لا تمكن من إنجاب كفاءات وطاقات، قادرة على الإبداع والاستثمار والابتكار والريادة. اكتفت بترسيخ مفاهيم دينية وثقافية، وتحويل التلميذ والطالب إلى مجرد ببغاء، أو صدى، يردد ما حفظه بطرق بدائية. وناذرا ما تجده يمتلك مواهب في الاجتهاد والاقتراح. ولا حتى قدرة فهم واستيعاب نصوص قرآنية أو سنية، يحفظها عن ظهر قلب. بل ورثت لدى بعض التلاميذ والطلبة، الإيمان الزائد والمفرط، ليس في العقيدة. ولكن في التأويلات والمفاهيم التي ترسخت لديهم، والتي تكون في غالبيتها مغلوطة، باعتبارها نتاج تحليلات فكرية ذاتية. وإذا كانت مدارس ومراكز ودور التعليم العتيق تسعى وفق ما أحدثت من أجله منذ قرون، إلى ترسيخ ثقافة دينية وطنية سمحاء، وفق المذهب المالكي، والنظام الملكي المغربي، وإذا كانت تسعى إلى تكوين مدافعين ومدافعات عن الدين الإسلامي والهوية والرصيد التاريخي المغربي. وطبعا الحرص الشديد على أن تكون لغة التواصل ممثلة في اللغة العربية. فإنها بالمقابل ضلت حبيسة هواجس أمنية وأوهام التخوف من التطرف والانحراف الديني، حدت من تطورها ومسايرتها للعقل البشري المعاصر، وجعلته يغرد خارج سرب التعليم العمومي وخارج حاجيات ومتطلبات الحياة بكل تجلياتها. في الوقت الراهن، ورغم ما تم إنجازه من مركبات ومراكز دينية، وما أطلقه الملك محمد السادس، من نداءات، من أجل النهوض بالتعليم العتيق وتحصينه والحفاظ على خصوصياته.فإن الواقع يؤكد أن لا شيء تغير في طرق تدبير تلك المدارس. والتي من المفروض ربطها بقنوات التواصل الإيجابي مع المدارس العمومية. وأن تحقيق الإدماج والاندماج اللازمين بين التعليمين، باعتبار أنهما معا يؤثثان لنفس الهدف. وحتى لا نكتفي بالتشخيص لواقع التعليم الأليم. الذي بين من الملموس أن السياسة التعليمية في المغرب سائرة في اتجاه قطع كل قنوات الاتصال والتواصل بكل رصيد المغرب التعليمي والثقافي والتراثي. بل إنها ماضية بمخططات ومناهج ورؤى غير محسوبة، في اتجاه طمس الهوية المغربية. لابد من أن نؤكد على أن الأمل، كل الأمل هو في ما ستفرزه اللجنة الملكية المنتظر إحداثها من أجل الإعداد لمشروع تنموي جديد. والتي هي ملزمة بالتشريح أولا لكل القطاعات، وفي مقدمتها التعليم بشقيه العتيق والعصري، والتكوين المهني، وبإحداث مشروع تنموي تعليمي، يواكب ويتمم باقي المشاريع التنموية الأخرى (الصحة، البيئة، التنمية الاجتماعية الثقافية والصناعية والمالية و..). ولا ننسى أن المغرب الذي احترف الخوض والغوص في المخططات والبرامج الاستعجالية والرؤى. دون إجراء أي تقييم حقيقي لها، بلا تحديد للسلبيات والإيجابيات ولا ترتيب للجزاءات. كل هذا أدخل قطاع التعليم في بركة مخططات متعفنة. آخرها الرؤية الاستراتيجية (2015/2030)، التي انطلقت منذ أربع سنوات بدون قوانين إجرائية. وكتب لها أخيرا أن تحظى بقانون إطار منظم للتربية والتكوين والبحث العلمي، مثير للجدل؟. حيث إلزامية التدريس باللغة الفرنسية، وضرب مجانية التعليم بفرض رسوم على ما سماها القانون بالأسر الميسورة (في مغرب يصعب تحديد شروط اليسر). وبعيدا عن الرؤية المستوردة. بادرت الحكومة إلى فرض التشغيل في التعليم بالتعاقد من أكاديميات التربية والتكوين. وإخضاع المتعاقدين لتكوينات عشوائية. ودمجهم في قطاع التعليم، بمؤهلات تعليمية جد محدودة، يلازمها الغضب والإحباط من جراء نوعية التعاقد، التي تجعل منهم مدرسين من الدرجة الثانية، معرضين للشطط الإداري. كما لجأت إلى الإعلان عن مشاريع وهمية. مبنية على أغلفة مالية غير متوفرة. كالحديث عن تعميم التعليم الأولي وفق مخطط (2018/2028). علما أن الوزارة الوصية ومعها الحكومة. لم توفر المبلغ المرصود سنويا، بل تحدثت عن دعم منتظر من المؤسسات الخاصة والمجالس الترابية و.. وهو ما يفقد المشروع مشروعيته. ويجعله مجرد لغو دعائي. يجب تحرير التعليم العتيق من سلطة الوصاية الواهمة، وإدماجه في التعليم الرسمي. وذلك برفع وصاية المندوبية السامية للشؤون الإسلامية. وإحداث وزارة للتعليم، مشرفة على كل أنواع التعليم والتكوين. وليس وزارة للتربية الوطنية. لأن المفروض أن التربية الوطنية تهم كل القطاعات والوزارات. وتهم المواطن صغيرا أو كبيرا، داخل المدارس والكليات والمعاهد والمعامل والمساجد. كما يجب الكف عن إلصاق مسارات التكوين المهني. بالتلاميذ الفاشلين دراسيا. باعتبار أن المهن التي أسس من أجلها التكوين المهني (العتيق)، هي مهن تغلب فيها القوة عن العقل. أما المهن العصرية، فإن الولوج إليها لا علاقة له بالقوة البدنية، بقدر ما تحتاج إلى عقول ذكية ونفوس مثابرة وجادة.