قبل أن يلفظني ميترو الأنفاق إلى قلب باريس العتيقة، قبالة كاثدرائية نوتردام وساحة محمد الخامس، حيث ينتصب مبنى معهد العالم العربي كجزء لا يتجزأ من المشهد الثقافي الباريسي، كنت قد دونت أسئلة دقيقة حول ما أتاني من معلومات من أوساط فرنسية موثوقة بشأن احتمال إغلاق المعهد وتحويله إلى أحد مقرات الاتحاد الأوربي. وضعت أسئلتي تحت عنوان مفتوح لعل رئيس المعهد يحررني من قبضة الشائعات ودوامة الشكوك المحيطة بالموضوع. وكان العنوان على شكل سؤال مغلق : هل تكلل احتفالات معهد العالم العربي بذكرى انطلاقته العشرين في نهاية هذا العام، بتوقيع شهادة وفاته بعد أن قرر العرب في استقالة جماعية، مقاطعة الشأن الثقافي ونسف الإرث العربي بحمولاته الحضارية وتداعياته المختلفة؟. عدت خاوي الوفاض بعد أن أُخبرت بغياب رئيس المعهد في مهمة خارج فرنسا، واعتذر من يخلفه عن إبداء رأي في الموضوع... حملت أسئلتي جزء منها في محفظتي الخاوية سوى من بعض البرامج الشهرية ل"خميس المعهد" و"المقهى الأدبي"، والجزء الآخر في مخيلتي المنهكة بثقل الأصداء التي غذتها تسريحات مجموعة من الموظفين، وإلغاء جزء هام من الأنشطة كإجراء تقشفي ناجم عن الضائقة المالية التي يشهدها المعهد والتي استدعت من رئيسه توجيه نداء استغاثة للمسؤولين العرب "لا أريدمنكم دعما معنويا فحسب، بل دعما ماليا أيضا". أخذت حيزا لي قبالة المبنى الذي ينتصب كواحدة من أبهى معالم العاصمة الفرنسية، جامعا بين أحدث عناصر العمران الحديث، وتأثيرات الهندسة العربية الإسلامية الأصيلة. وحز في نفسي أن يكون العرب بغازهم ونفطهم على هذا القدر من البخل الروحي والفكري الذي ينم عن تحقير واستهتار كبيرين بالإرث الثقافي العربي وما أثبته من قدرات على الانصهار قي بوتقة الفكر الإنساني. ميزانية المعهد السنوية لا تزيد عن 20 مليون أورو، يؤمن المعهد نصفها من الخارجية الفرنسية، وبعضها من مداخيله الخاصة ومن عائدات المؤسسات المتبرعة، ولا يبقى للدول العربية مجتمعة سوى ثلاثين في المائة، لا تؤدي منها اليوم أكثر من عشرة في المائة. كم هي ثقيلة الأعباء على المسئولين العرب عندما تتعلق بمحو الصورة النمطية السلبية المرسومة عن العرب وتعزيز المسار المتميز للتلاقح الأدبي بين العالم العربي وفرنسا، وتفعيل انصهاره في عمق الثقافات الأخرى وخاصة الأوربية والمتوسطية، من خلال ما يحتضنه المعهد على امتداد فصول السنة، من معارض ومهرجانات ثقافية وفنية وملتقيات أدبية وشعرية، فضلا عن ملتقيات فكرية ومحطات تأملية في بعض النتاجات العربية في مجالات الشعر والرواية والمسرح والفنون التشكيلية وغيرها. لم يعد أحد من رواد المعهد، عربا كانوا أم أجانب، يستبعد اليوم إغلاقه بسبب عدم وفاء الدول العربية منذ سنوات بالتزاماتها المالية، واستقالتها من مسئولياتها الثقافية لتبصم عهدا جديدا يتحول فيه المعهد من منبر عربي للعطاء والبذل المتجددين إلى فضاء أوربي أو متوسطي فرنسي. قد نتفهم شح دول الخليج ذات التوجه الأنغلوسكسوني المسكونة أكثر بعروبة الشام والجزيرة العربية، والحريصة على أن تسلم الثقافة العربية من شوائب الامتزاج، لكن الأمر يختلف بمنطقة المغرب العربي التي نهلت ثقافتها منذ عقود من الحمولة الفرنسية إلى حد الانصهار بل أحيانا الذوبان في الأجناس الفرنكفونية المختلفة. أضف إلى ذلك حضور جالية قوية دائمة البحث عن صنع ذاتها ضمن معادلة الاندماج والهوية. وإلى حين أن يدرك المسئولون العرب، خليجيون، شاميون، أو أفارقة، قبل فوات الأوان، رسالة هذه المؤسسة وبعدها الثقافي، ويضعوا جزءا من رصيدهم المالي رهن إشارة الثقافة، تبقى الخيارات المطروحة حتى الآن نسجا على منوال الأزمة التي يعيشها المعهد، وتبقى كرة الشرود والاستهتار بالإرث الثقافي في الميدان العربي. وللتذكير فإن معهد العالم العربي بباريس أقام منذ تأسيسه سنة 1988 في عهد الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، عددا منالمعارض التي قدمت التراث العربي في تنوعه وغناه، وانتقلت به من باريس إلى عواصم ومدن أخرى في أوربا وحتى أمريكا. وقد أهلته هذه التجربة إلى اكتساب مهارة حقيقية في مجال تنظيم المعارض التراثية الكبيرة التي يتجاوز عدد زائريها مئات الآلاف،حيث وصل المعهد إلى حد استقبال أكثر من مليوني زائر في العام، وأضحى بالتالي من بين المعالم الثقافية الرئيسية في العاصمة الفرنسية.