حق تقرير المصير ومعه الاستفتاء ارتبطا مع نهاية الحرب العالمية الأولى بحق البلدان المستعمرة في التحرر من الاستعمار والحصول على استقلالها. وبمعنى أدق، فإن تقرير المصير كما صادق عليه مجتمع الأمم آنذاك (الأممالمتحدة حاليا)، يقضي بتخليص الدول المستضعفة من قبضة الإمبراطوريات الاستعمارية التي تصارعت بقوة وتسابقت لاقتسام مناطق النفوذ وتوزيع الغنيمة. وكان من نتائج هذا التسابق أن اقتسم الاستعمار الأوروبي المستعمرات وكأنها خالية من السكان. ومن هنا تحتّم على المجتمع الدولي إقرار حق تقرير المصير لتمكين الدول المستعمرة من استقلالها بدون اللجوء إلى استفتاء أو صناديق اقتراع أو ما شابه ذلك. وتتلاحق السنين ويصبح حق تقرير المصير مسألة مكفولة بموجب المعاهدات والقوانين الدولية، ومنها المعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية الصادرة سنة 1966، وتنص بالحرف على "أن جميع الشعوب لها حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي حرة في تقرير نظامها السياسي وتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي". أين تجد التيارات الانفصالية والدول الراعية لها،موضعها في هذه المعاهدة الأممية الخالية من أية إشارة لاستفتاءأو اقتراع، بل يُفهم منها وبشكل لا لبس فيه، تمكين سكان داخل التراب الواحد من الحصول على نوع من الاستقلال، في إطار حكم ذاتي، يخولهم صلاحيات واسعة لتدبير شؤونهم السياسية والاقتصادية وحتى الإدارية، بما يحقق الإقلاع التنموي والثقافي بالمنطقة. وأُضيف للمعاهدة التي أصبحت سارية المفعول منذ عام 1976، تعديل بالغ الأهمية يشير إلى "منح السكان المحليين إمكانية أن يقرروا شكل السلطة السياسية التي يريدونها، بشكل حر وبدون تدخل خارجي". والإشارة هنا إلى رفض التدخل الخارجي يُفهم منها بوضوح اختيار السكان شكل السلطة وتقرير النظام السياسي وتحقيق النماء الاقتصادي والاجتماعي داخل البلد الواحد. وتجسيدا لهذه المبادئ والمواثيق الدولية، جاءت مبادرة الحكم الذاتي لتعطي، من حهة، صلاحيات واسعة لسكان الأقاليم الجنوبية لتدبير شؤونهم السياسية والاقتصادية، ولتؤكد من جهة أخرى، نية المغرب الصادقة والصريحة في الوصول إلى حل سياسي تفاوضي يحترم الشرعية الدولية ويُجنب المنطقة مزيدامن النزاعات والتوترات. وفي كل ما قرأناه من شروحات ومفاهيم في كتب العلوم السياسية منذ الحرب العالمية الأولى إلى اليوم، نجد مصطلح حق تقرير المصير مرتبط ب"حق كل شعب في حكم نفسه بنفسه واختيار نظامه السياسي اختيارا حرا". ولا أثر بالمرة للمفهوم المغلوط الذي تحيطه الجزائر بمبدأ تقرير المصير وتغلفهبتنظيم استفتاء. حق تقرير المصير الذي تكفله الأممالمتحدة، تحوّل اليوم في عهد الأخلاق السياسية الساقطة، عن مجراه الحقوقي والإنساني بعد أن بادرت دول من إفريقيا وآسيا إلى خلق كيانات انفصالية وهمية أضفت عليها مبدأ "الحق في تقرير المصير" من أجل ابتلاعها فيما بعد، إما بإعلان اتفاق الوحدة الشاملة بينهما، أوبتوقيع "ميثاق الجمهورية المتحدة" بين الانفصاليين والدولة الحاضنة. وسبق لي أن حذرت السيد عمر المنصور، ممثل جبهة البوليساريو بباريس من هذا المنزلق الخطير، وذلك في لقاء متوتر في صيف 2011 ضمن برنامج "وجه لوجه" بقناة فرانس 24 الفرنسية، حينما ذكرته بميثاق الوحدة بين الجمهورية الجزائرية وما يسمى ب"الجمهورية الصحراوية" في حال حصولها على الاستقلال، الموقع بين في فاتح أكتوبر من سنة 2007 بين وزير الخارجية الجزائري آنذاك، مراد مدلسي، وزعيم الانفصاليين، محمد عبد العزيز، كما أوردت ذلك صحيفة "لا ليبر بليجك" (la libre Belgique) الواسعة الانتشار في الدول الفرنكفونية. ومعنى هذا الميثاق أن مدنا مثل العيون والسمارة والداخلة ستصبح بكل بساطة مدنا جزائرية. ومعنى هذا أيضا أن الجزائر افتعلت نزاعا وهميا بغاية الحصول على منفذ على المحيط الأطلسي لتصدير غازها ونفطها وبضائعها.. ثم إن الواقع السياسي الراهن يحدثنا عن دول قامت استنادا إلى فهم سيء ومغلوط لحق تقرير المصير ومن دون أن تمتلك مقومات الدولة، بل إن ظروفا سياسية إقليمية ودولية بما في ذلك موازين القوى السياسية والعسكرية فرضت قيامها. ومثال ذلك على الصعيد العربي، جنوب السودان الذي عصفت به حرب أهلية بعد فترة قصيرة من الانفصال حصدت من الأرواح ما تجاوز ضحايا الحرب الأهلية التي استمرت لعقود، وذلك بسبب عدم توفر المقومات السياسية والجغرافية للدولة. وتنتظر اليمن وليبيا دورهما بحكم ضعف الدولة المركزية وتكالب القوى الخارجية وعلى رأسها إيران وتركيا. ولا غرابة أن نسمع في القريب بدولة حوثية وأخرى بنغازية وثالثة طرابلسية.. وما إلى ذلك. وحق تقرير المصير أصبح الحجة الواهية والمطية الأسهل لبلوغ الهدف المنشود، فيما شعوب داخل الدولة الواحدة هي الأجدر بهذا الحق، محرومة من تقرير مصيرها وتقرير شكل السلطة السياسية والإدارية التي تريدها. وأقصد هنا سكان القبايل بالجزائر، وسكان كورسيكا بفرنسا، والمنطقة الفلامانية ببلجيكا،وإقليم بافرايا بألمانيا بالإضافة إلى عشرات الأقاليم في أوربا وآسيا وإفريقيا... ويتساءل المغاربة اليوم بكثير من الحسرة الذي أوصل الرئيس عبد المجيد تبون والطغمة العسكرية الحاكمة في حقدهما وعدائهما للمغرب إلى هذه الدرجة السفلى من الدناءة والضغينة والغل.أليس مضحكا أن تخلق الجزائر كيانا انفصاليا وتُغلفه بمبدأ تقرير المصير الذي اتخذ اليوم شكل ورم سرطاني ينخر جسد شعوب المنطقة وهو في طريقه لتمزيقها. أليس مضحكا أيضا المطالبة بحق تقرير المصير لجبهة البوليساريو من أجل قيام دولة مستقلة بغاية ابتلاعها فيما بعد. منسوب العداء الجزائري للمغرب بلغ حدا لا يطاق، لكنه لن ينال أبدا من وهج الارتباط الاجتماعي العميق بين الشعبين المغربي والجزائري، في ظل بروز جيل جديد من الجزائريين يصعب عليه فهم دعم بلاده لمليشيات البوليساريو والمبالغ الباهظة التي تصرفها من أموال الشعب الجزائري لخدمة أطروحة زائفة.