اسمه جون دانييل بنسعيد، ولد من أسرة يهودية جزائرية سنة 1920، عمّر قرنا من الزمن حيث وافته المنية سنة 2020. مهنته الصحافة التي انتصب فيها كواحد من أبرز الأقلام العالمية في وقتنا الراهن، وربما من الصحفيين القلائل الذين شاركوا منذ الخمسينات في صياغة السياسة الفرنسية نهجا وتخطيطا مع عدد من قادة فرنسا الذين جمعته بهم روابط صداقة وعلاقات عمل. أقام روابط قوية مع الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر، ومع الأديب العبثي ألبير كامو (جائزة نوبل) الذي سيصبح فيما بعد سننده الفكري والمادي بعد أن ساعده في نشر روايته الأولى "الخطأ"، بدار النشر جايمار التي كان يرأسها. التحق جون دانييل سنة 1953 بمجلة "ليكسبريس" التي وفرت له إمكانية القيام بتحقيقات كبيرة خارج حدود فرنساوالجزائر، وجعلته ينسج شبكة ضخمة من العلاقات مع كبار الساسة العالميين من أمثال فيديل كاسترو، شي غيفارا، غاندي، ريشارد نيكسون، دوغول، تشرشل، كينيدي، باتريس لومومبا، سيكوتوري وغيرهم... أسس جون دانييل لنفسه أسلوبا متميزا في الكتابة الإعلامية وخاصة في جنس التحقيقات والاستطلاعات الكبرى التي تألق في إنجازها بآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. وكان من ثمار هذا التألق أن تلقى عروضا من كبريات المؤسسات الإعلامية الفرنسية والعالمية، إلى أن استقر اختياره سنة 1963 على مجلة "لونوفيل أوبسيرفاتور" ذات التوجه الوسطي الاشتراكي التي تولى فيها كتابة افتتاحياته الأسبوعية، قبل أن يصبح مديرا استقطب إليها ألمع الكتاب والمثقفين الفرنسيين على اختلاف حساسياتهم الفكرية والسياسية، فاكتسب بهم عمقا في التحليل وتنوعا في الرؤى. في قلب مكتبه المطل على بورصة باريس، يبدو الرجل منهكا بثقل السنين (93 عاما) لكنه كان في منتهى الفتوة الفكرية التي جعلتهيسعد بعمره ويحياه باعتزاز من منطلق العطاء الذي أراده خصبا متجددا وفاعلا، ومن منطلق عشقه الكبير للحياة التي "وإن كانت امرأة متقلبة، فإن جمالها يفوق كل جمال"، كما قال. سألته عن العلاقة التي تربطه بالمغرب وهل من جاذبية خاصة يمارسها عليه هذا البلد؟، فكان جوابه الذي أنقله بكل أمانة هو التالي : "علاقتي بالمغرب بدأت صغيرة كما تبدأ العلاقة مع أي كائن بشري، ثم شرعت تنمو وتتقوى بفعل سحر البلد ودفء الناس، إلى أن أصبحت علاقة ثلاثية الأبعاد: جمالية، عاطفية وتاريخية. فأنا مرهف الإحساس تجاه تونس، شديد الإعجاب بالجزائر، موطن النشأة، لكن اللسان يخذلني كلما حاولت تفكيك رموز هذا العشق الذي يسكنني تجاه البعد الجمالي والإنساني العميق للمغرب". سألته ثانية، وهل من سبب لشعلة العشق التيالتي تجمعه بالمغرب، فقال :"تعلمت مع تلاحق السنين كيف أخوض في تفاصيل هذا البلد وجزئياته بما فيها البعد البربري المتجذر في الخصوصية المغربية، والتنوع العرقي والثقافي، وتأثيرات المحيط الأطلسي، وتعاقب الأسر المالكة، وتأصل وانصهار العادات والتقاليد التي أغنت الرصيد الروحي لبلدكم بشكل متميز.. وقفت أيضا على قيم التسامح والتعايش التي تميز شعبكم، والتي مكنت الجالية اليهودية من الانصهار بسهولة في النسيج الاجتماعي المغربي.. تعرفت على بعض أفراد هذه الجالية بمدينتي فاس وصفرو، وأبلغوني بكثير من الاعتزاز بأنهم ينحدرون من أسر ضاربة في عمق التاريخ المغربي. ومجمل القول أنني استسلمت راضيا لكل هذا الزخم الجمالي والإنساني الذي أختزله في عبارة واحدة: كرامة هذا البلد وعزة نفسه. أشدد على كلمة الكرامة لأنها الأقوى تجسيدا لسماحة هذا الشعب ونُبله". ثم إن المغرب بلد الواقع والأسطورة معا، تعيش على مشارف مدنه وجدرانه العصرية عادات وتقاليد مختلفة ومتنوعة، ولكل واحدة منها نكهتها المميزة، وهو أيضا وريث ثقافة عريقة تمتد على مدار مئات السنين. سألته عما إذا كان يقصد بكلامه أن المغاربة متفردون عن شعوب المنطقة بالرغم من القرب الجغرافي، فأجاب : "القرب الجغرافي عنصر تقارب بالتأكيد، ولكن الواقع السياسي والاجتماعي يفعل فعله في بناء الخصوصية الفردية والجماعية للشعوب. فالتونسييمتاز بمزاجه البشوش الدافئ، والجزائري بطبعه الحاد، أما المغربي فيمزج بين البشاشة والفطنة، تراه عاليا وليس متعاليا، وتلمس في مظهره وهندامه بعض ملامح الشرف والنبل. أدهشني أيضا ما رأيته من انفجار عمراني وتسابق عقاري حول مدن عتيقة مثل مراكش التي لم تسلم حتى اليوم من جشع المضاربين العقاريين، ومن بعض مظاهر السياحة المتوحشة، وكذا طنجة بمشاريعها "الكاليفورنية". ولحسن الحظ أنه مقابل هذا التنافس العقاري المجحف، أذهلني ما وقفت عليه من فوران ثقافي في فنون الأدب والتشكيل والموسيقى والشعر، مما يدل على أن المغرب له من المناعة الثقافية ما يؤمنه من عواقب المعاصرة الزائدة والتلوث السياحي. قرأت الكثير من المؤلفات عن المغرب ومعظمها تتناول بإسهاب الخصوصية المغربية المتفردة. ثم إنني أعجبت أيما إعجاب بكتابات الأديب الراحل إدريس الشرايبي الذي أعتبره من رواد الرواية الحديثة الذين وضعوا لأنفسهم مسافة مع أنماط الكتابة الاستشراقية. وأتأسف كثيرا عن كون الأدب العالمي لم ينصفه بجائزة نوبل. حدثني أيضا عن بعض الجوانب الصادمة في البناء الجسدي المغربي، فهو، يقول الهرم الإعلامي الفرنسي "لم يتخلص بعد من التنشئة القبلية، ولايزال قائما على نظام الأبوة ومنشطرا إلى قسمين: الأغنياء الذين تتفاحش ثرواتهم بشكل مخجل، والفقراء الذين يزدادون فقرا وتزداد الهوة بفقرهم اتساعا. وما يصدمني في المغرب هو، من جهة، إهماله بل تخليه عن بعض المناطق الفقيرة، ومن جهة أخرى تفشي الأمية بشكل لا يطيقه العقل. فبينما اقتربت تونس من القضاء عليها بشكل نهائي، وتحذو حذوها الجزائر، يبقى المغرب بنهضته الاقتصادية الكبيرة، يجر ذيول الأمية بنسبة تناهز نصف الساكنة.. يقولون لي إن الملك وضع هذه المعضلة في مقدمة أولوياته، وأجيب بأن رجلا واحدا لا يكفي للتغلب على معضلة من هذا الحجم، لاسيما وأن له من الانشغالات والأولويات ما يحتم تضافر جميع الإرادات لجعل النصف الآخر من الجسد المغربي يستفيد من عملية النماء الاجتماعي.. والنتيجة إلى حد الساعة، تسير في الاتجاه المعاكس.