الاستثمار في الثقافة كركيزة من ركائز التنمية الشاملة لا يجادل شخصان اليوم أن الفعل الثقافي بالمغرب أصبح يرتبط ارتباطا عضويا بالتنمية المستدامة، خاصة مع بروز بوادر تسير في اتجاه استثمار الثقافة، في شموليتها، كركيزة من ركائز التنمية البشرية التي قطع فيها المغرب أشواطا كبرى. وإذا كانت المملكة تتميز بالحفاظ على مقومات الشخصية المغربية الأصيلة والهوية الوطنية، وبالانفتاح على العالم من خلال إشعاع هذه الثقافة فإن ذلك كان محفزا كبيرا لها لربط ذلك بالتنمية البشرية بل وحتى الاقتصادية. ولعل ذلك بالضبط ما قصده المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري حينما قال «إن التنمية البشرية لا تكتسب معناها الحقيقي إلا إذا نظر إليها أولا وقبل كل شيء من زاوية هذا البعد الثقافي الذي يجعل منها محصلة التداخل والتكامل بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، بل أيضا محصلة التداخل والتكامل بين ما هو أصيل متجدد وما هو حديث يتأصل في جميع مجالات الحياة». ومن المداخل التي اختارها المغرب للنهوض بالمكون الثقافي كرافعة من رافعات التنمية، مدخل الاصلاحات الدستورية التي أكدت على دعم التعددية والتنوع اللذين يزخر بهما المغرب في المجالات اللغوية والثقافية، والمبنيين على احترام حقوق المكونات الاجتماعية وكرامة الأفراد، وإرساء قيم الحوار والعيش المشترك والتسامح وهو ما يفسر مجموعة من المبادرات الدالة التي تزكي هذا الاختيار. من جانب آخر ثمة دعوات للنهوض بالصناعة الثقافية, التي لا يمكن إغفال دورها في النهوض بهذا القطاع, والتي ستكون لها انعكاسات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية وذلك من خلال مشاريع مهيكلة. ويندرج ضمن المشاريع المهيكلة توقيع اتفاقية نونبر الماضي لبناء المسرح الكبير للرباط على الضفة اليسرى لأبي رقراق الذي سيجعل من الرباط عاصمة للثقافة عامة، ولأبي الفنون خاصة. ويعتبر هذا الورش من أكبر الأوراش المهيكلة التي حرص صاحب الجلالة الملك محمد السادس على أن تتوفر عليها عاصمة المملكة سواء من حيث الغلاف المالي الذي خصص له (350 مليون درهم) أو من طاقته الاستعابية ومكوناته حيث سيستوعب 2050 مقعدا وقاعة ثانوية للعروض بطاقة 520 مقعدا ومدرجا للعرض بطاقة استيعابية من 700 مقعدا ثم فضاء مسرحي كبير بالهواء الطلق ل 7000 متفرج. ويأتي تشيد هذا المسرح لتعزيز التراث الثقافي لمدينة الرباط وتوجهها الاستراتيجي لتصبح عاصمة ثقافية كبرى في المنطقة. وصيانة للذاكرة المغربية، وبالاضافة إلى دسترة الأمازيغية وإحداث مؤسسة أرشيف المغرب، هناك مشروع تشييد متحف لمنطقة الريف. ويندرج إحداث مؤسسة «أرشيف المغرب» في إطار برنامج طموح يهدف إلى تنظيم وتجهيز الأرشيف الوطني والإشراف على جمع مصادر هذا الأرشيف الموجودة في الخارج ومعالجتها وتيسير الاطلاع عليها سواء للمثقفين أوالباحثين وهو ما يؤسس لمرحلة حاسمة في البناء الديموقراطي بالمغرب. وفي الاتجاه ذاته تم، مؤخرا، بالحسيمة التوقيع على اتفاقية لإحداث «متحف الريف»، الذي يروم التعريف بالذاكرة التاريخية، بما فيها ذاكرة التاريخ الراهن سواء على المستوى المحلي أو الجهوي أو الوطني، وتشجيع الحوار الثقافي والحضاري، والاهتمام بتنمية السياحة الثقافية في الجهة وإحداث وتطوير مهن ثقافية مرتبطة بالأنشطة المتحفية. ولا يمكن الحديث عن الثقافة دون الإشارة إلى القراءة كفعل مؤسس للمعرفة، بحيث يتم تنظيم معارض للكتاب في كل الجهات بهدف تشجيع القراءة والاستئناس بالكتاب في ظل زحف الأنماط الجديدة ومتعددة الوسائط للانتاج الثقافي. وفي هذا الصدد، تلعب المكتبة الوطنية للمملكة المغربية دورا هاما في ترسيخ ثقافة القراءة والاطلاع المعرفي باحتضانها للعديد من الأنشطة الثقافية إلى درجة أصبحت معها بمثابة «مجمع» للمفكرين والمثقفين المغاربة والأجانب. وإضافة إلى ذلك كله فإن المهرجانات الفنية والموسيقية ذات الصيت العالم التي يشهدها المغرب كل سنة كالمهرجان الدولي للفيلم بمراكش ومهرجان موازين إيقاعات العالم بالرباط ومهرجان الموسيقى الروحية بفاس وغيرها جعلت المملكة بحق فضاء للتسامح والتعايش والتواصل والانفتاح على الآخر، وقبلة يحج إليها سنويا المفكرون والمثقفون والفنانين من كل حذب وصوب ومن شتى المشارب والمذاهب والديانات والحضارات.