- Advertisement - ذ. محمد الخشين إن المسألة الملحة التي تطرح أمام الباحث في الفن التجريدي، سواء كان ذلك انطلاقا من أعمال الفنان الكبير محمد خصيف أو غيره من الفنانين التجريديين، تتعلق بما إذا كان العمل التجريدي رسالة، أي مشكلا من علامات أو دلائل. وقد قيل في هذا الصدد مثلا: إذا كانت العلامات تحيل إلى ما تدل عليه بوصفها علامات، فإن الفن التجريدي باعتباره لا يحيل إلى شيء، فهو لا يتألف من علامات. وهذا قول قابل للنقاش. وبالمقارنة بين المواد التي يستعملها كل من الشاعر والفنان التجريدي، بدا أن الأولى زاخرة بالدلالة، وهي كلمات أو مجموعات من كلمات ذات معنى، ومن خلال نظمها يسعى الشاعر إلى إحداث انزياح في معناها أو تعديله وإثرائه، في حين أن الثانية، وهي لطخات من الألوان، فهي بوصفها غير ذات علاقة صريحة مع الواقع لا تعد بمثابة عناصر تملك في ذاتها دلالة ما.وذلك على خلاف ما هو عليه الشأن فيما إذا كنا نقارن المواد التي يستعملها الشاعر بتمثيل الأشياء في الفن التشخيصي. بلغة أخرى، فإن مشكلة الفن التجريدي، من هذا المنظور، هي أن الألوان تعتبر كوسائل تسمح بالتعبير عن دلالة الأشياء، وعندما لا تملك في ذاتها أية دلالة فهي تظل كدوال بدون مدلولات. ومن هنا جاء نقد لفي شتراوس المركب وفق صيغة تاريخية: الفن التجريدي هو "النزعة الأكاديمية للدال"، وبالتالي فنقد شتراوس للفن التجريدي يرتكز على أساس اعتبار الدوال البصرية، إذا لم تحل إلى أشياء تعطيها معنى ما، فهي مجرد دوال خالصة، أي فارغة من المعنى. مثل هذا الموقف يمكن أن نستشفه أيضا من شهادة الكاتب الطاهر بن جلون في حق الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي عندما قال عن أعمال هذا الأخير بأن الإيجابي فيها هو أنها لا تتضمن أية رسالة ، علما أنه أشار قبيل ذلك إلى كون الفنان المليحي كان مهووسا بالعلامات والأشكال، وهذا الكلام لن يكون مفهوما إلا إذا كانت هذه العلامات والأشكال خاوية من المعنى. ونفس الشيء يصدق على نقد عبد الله العروي القائل بأن "آفتنا الكبيرة هي التجريد" ، فالفنانون التجريديون المغاربة لا يساعدون المؤرخ على إنجاز مهمته المتمثلة في بناء المعرفة التاريخية إذ أن أعمالهم لا تقدم أية شهادة على التاريخ، على عكس فناني المدرسة التشخيصية.وبالنسبة للعروي تلك هي مشكلة الذهنية العربية بوجه عام ،الشيء الذي يجعلها عاجزة عن فهم الواقع بشكل ملموس. غير أن التمييز بين التشكيلي والأيقوني من شأنه أن يسمح بتفكيك ودحض هذا التصور، خصوصا في هذا الوقت الذي تعتبر فيه أهمية ما هو تشكيلي بمثابة أحد الرهانات الرئيسة للحداثة التصويرية. ومن هنا يمكن القول بأن المعادلة القديمة، الدال=التشكيل، والمدلول =الأيقونة، عاجزة عن أخذ التشكيل بعين الاعتبار، وهي الأهمية التي تجلت بصورة لامعة مع الفن التجريدي، ومن ثم وجب التمييز بين العلامة الأيقونية والعلامة التشكيلية، فهذا التمييز ضروري من أجل "تطوير بلاغة للتمثيل البصري لا تنحصر فقط في التشخيص، بل تتعداه بالنظر إلى قدرتها على التعامل مع غير المشخص. وفضلا عن ذلك، فإن بلورة التمييز بين الأيقوني والتشكيلي كان من أجل رهان نظري أساسي لتفجير التصور القديم حول "العلامة البصرية"التي تتكون من (دال )تشكيلي و(مدلول) أيقوني. فإذا تكلمنا عن علامة تشكيلية وعلامة أيقونية، فنحن أمام علامتين في حد ذاتهما، كل واحدة لها تصميمها الخاص بالتعبير والمحتوى. وهذا التصور الجديد يسمح بمواجهة أطروحة شتراوس: فمنذ اللحظة التي تملك فيها العلامة التشكيلية أيضا مدلولا معينا لا يعود صحيحا القول بأن ألوان وأشكال الفن التجريدي كانت مجردة من الدلالة . ويمكن القول في هذا السياق مع فيدلر:"ليست اللغة شاشة تختبئ خلفها الحقيقة المرئية،وإنما هي ما يؤسس الإيمان الحسي". وقد أكد الشكلانيون الروس، وبالخصوص تشكلوفسي على أن التربية لا تعلمنا فقط وضع الأسماء على الأشياء، لكن أيضا، وللحصول على أقصى ما يمكن من الاقتصاد في القوى الإدراكية، فنحن ندرك الأشياء باستخدام ذاكرة من الصور الجاهزة، والرسوم البيانية المختصرة ذات النمط الجبري أو الرمزي الكافية من حيث التمثيل، لكي نتمكن، ليس من رؤية الشيء فقط ، وإنما من التعرف عليه . وهكذا يمكن القول على شاكلة موندريان بأن "الفن التجريدي تعبير تشكيلي خالص عن الكونية المنبتة فينا وخارجنا"، ذلك أن اللون يمكن أن يعبر عن الفضاء، الشكل والضوء .وباختياره لهذا الأسلوب الأكاديمي في مرحلة محددة يكون فناننا محمد خصيف المكرم باستمرار، هنا وهناك، داخل المغرب وخارجه،قد توسل العلامة التشكيلية للتعبير عن أفكاره ، لكن أيضا أحلامه وتخيلاته وآماله، بكيفية قصدانية، مثل شخص يشك أن يكون ما يراه حقيقيا أو واقعيا، بحيث يتصور أن الواقعي والحقيقي يحتاجان إلى إعادة بناء من جديد،وبأن الأشكال والألوان تؤديان الوظيفة التعبيرية بشكل أفضل بكثير من الكلمات. وقد احتفى محمد خصيف بالأسود، ولم يكن الفيزيائيون يعترفون به، بحيث أنهم لم يعتبروه لونا حقيقيا، إذ هو فقط ناتج عن غياب الضوء، ليس إلا، وذلك في معرض وسمه بعنوان "هرمونيا الأسود" ،وذلك برواق" Mine D'art" بالدار البيضاء، ضم أعماله الجديدة، التي جمعت أزيد من ثلاثين لوحة تحتفي بالتجريد. ويندرج معرض البيضاء، الذي امتد إلى غاية 31 يناير2013 ، ضمن عودة خصيف إلى الساحة التشكيلية وتجديده الوصل مع الفرشاة والألوان، التي ارتضاها، بعد غياب قارب 20 عاما.ومن خلال هذا التعبير اللوني الرمزي سعى محمد خصيف إلى التأثير في المتلقي ،كأن يحرك عواطفه الإنسانية أو يوقظ ضميره الأخلاقي، وهو في كل الأحوال يشد انتباهه ويحفزه على التفكير في رمزية اللون، لكي يورطه في مواجهة المفارقات اللونية، من قبيل مفارقة الأسود: هل هو ذو تضمين سياسي معين،في حال ما إذا اعتبرناه مثلا يجسم السلطة والاستبداد، يا ترى، أم أنه لا سياسي ويعبر عن الحياد الذي لا يتوق سوى إلى تحقيق منجز أنيق ؟هل هو تشاؤمي ويترجم مشاعر اليأس والخوف يشير إلى الموت أم هو دال على التفاؤل وعلى قوة الحياة والأمل وذلك بالتخصيص إذا ما كان ظلا بشريا؟ وقد أسر لي الفنان محمد خصيف عن أعماله الأخيرة بأن تناغمات السواد فيها لا تحمل أي دلالات سياسية أو غيرها. إذ كان قد اشتغل محاولا أخذ نوع من الحياد اتجاه ما يدور حوله، عكس تجربة الجسد التي لامسها بداية الثمانينات، واتخذت مذبحة صبرا وشاتيلا كتيمة اشتغال.مضيفا:" كان موضوع القضية الفلسطينية عتبة تجاوزتها لطرح قضايا إنسانية أخرى، يمكن استكناهها من خلال قراءة أولية لباقي اللوحات المعروضة وقتئذ. أما الاشتغال على السواد، كان … احتفاء بلون محايد، لا وجود له في الطبيعة، لكن له رمزية متعددة تسمو به عاليا".لكن في كل الأحوال يبقى باب التأويل يبقى مفتوحا على مصراعيه، والشرط الوحيد الذي لا يتعين تعديه هو التساوق المنطقي للخطاب التأويلي.