إلى الإخوة الساهرين على منصة ناقوس الفن، وبخاصة الفنان التشكيلي العزيز عثمان الشملاني ولد الصديق العزيز محمد غزولة بمدينة تطوان سنة 1963، وهو خريج مدرسة الوطنية الفنون الجميلة بالمدينة نفسها، حيث درس على يد أساتذة كبار مثل محمد الناصري، التهامي الداد وعبد الكريم الوزاني. احترف الفن التشكيلي بعد تخرجه وعرف نحاتا أكثر منه رساما، شارك في معارض جماعية كثيرة في مختلف ربوع الوطن، وأخرى فردية، لا يتسع هذا المقام لسردها. اشتغل على الحديد على امتداد سنوات عطائه الإبداعي، وهو ينتمي للاتجاه التشخيصي، لكن بتقنيته الخاصة التي يعتمد فيها على التقطيع واللعب على الفراغات لتجاوز المحاكاة التامة لما هو واقعي. ومن طبيعة الحال، شهرة محمد غزولة كنحات، حجبت بشكل أو بآخر الحديث عنه كرسام رغم أنه رسام بالفعل. هذه المزاوجة بين النحت والصباغة تذكرنا بالنقاش الذي أثير حول هذين النوعين من الفن التشكيلي في الغرب وفي العالم العربي الإسلامي، وقد تكون هذه العودة مفيدة لتقدير قيمة اجتماع القوتين الحسيتين معا لدى الفنان التشكيلي، ولمعرفة أية شروط تاريخية وسوسيولوجية يعمل فيها النحاتون بالمغرب الصديق محمد غزولة، قبل محاولة تأويل نموذج من الأعمال الأخيرة للصديق محمد غزولة. كان الرسم يعتبر فنًا فكريًا، بينما كان النحت ميكانيكيًا بشكل أساسي. يتطلب النحت عملاً شاقًا يولد العرق والإرهاق، فمن المحكوم على النحات أن يبقى متسخًا إلى الأبد، مغطى بالشظايا والغبار. والأسوأ من ذلك، هو أن فنه هذا لم يكن يعتبر"علمًا"، لأن هذا الفنانً لا يهتم إلا بأبعاد الأعضاء وطبيعة الحركات والوضعيات، ونتيجة لذلك يقدم النحت الواقع كما هو. بينما الرسم، على العكس من ذلك، كان أحد فنون الوهم، لأنه" من خلال قوة العلم، يجعل المناظر الطبيعية ذات الآفاق البعيدة، على سطح مستو، تظهرٍ أكثر روعة، أي أن النقد الموجه للنحت هو أنه بدا مثل الشيء نفسه، كما أنه اعتمد تقنية يمكن تأويلها ليس فقط بالبصر، وإنما باللمس أيضا. والنحت هو فن الوزن، الكتلة، الحجم والكثافة، إذ يختلف عن فن الرسم والصباغة بصلابته، ومتانته هذه جعلت فناني عصر النهضة يعتبرون الرسم والصباغة شكلا فنيا أرقى. ويعد ليوناردو دافينشي أول من تحدث عن التنافس بين الفنين معتمدا في ذلك على ما يسمى في اللغة الإيطالية بالباراغون، والمقصود بهذا المفهوم ممارسة نظرية أساسها المقارنة بين مزايا الرسم والنحت اشتهرت في عصر النهضة وأوروبا الحديثة، وهذه الممارسة بعيدة عن التعبير على أي عداء عقيم ، فهي تنبع من المكانة التي أعطاها عصر النهضة والعصر الحديث لهذين التخصصين من خلال دعوتهما إلى إنشاء خطاب نظري عن نفسيهما. بين المهنة والنظرية، يمنح الباراغون الفنانين فرصة للتفكير في الغاية من ممارستهم ، وبهذا المعنى فهو يشهد على تحررهم الفكري والاجتماعي في أوروبا الحديثة. من الخطأ اعتبار هذا الخلاف مجرد مبرر، إذ أن البحث عن "فائز" يبدو في النهاية أقل أهمية بالقياس إلى مجهود البحث الذي يحفزه ويشرح استمرارية "الباراغون". إنه السؤال الأكثر عمومية حول علاقة الفن بالعالم الذي ينعكس فيه، من عصر النهضة في إيطاليا إلى عصر التنوير في أوروبا. ويجب أن يُنظر إلى هذا البحث النقدي، وهو الأول من نوعه، على أنه أحد النتائج الرئيسية لعملية إعادة تقييم الفنون التشكيلية التي بدأت في عصر النهضة، والتي تهدف إلى إدراج الرسم والنحت في سجل الفنون الحرة، إلى جانب البلاغة، الموسيقى والهندسة. وقد شارك الفيلسوف ديدرو في لعبة الباراغون فكانت مقارنته بين الرسم والنحت من أجل قياس مزايا كل منهما في تقليد الطبيعة، والحجج التي قدمها هذا الفيلسوف هي في معظمها تلك قدمها فنانو وعشاق الفن في عصر النهضة، لكن ديدرو يغير النقاش أيضًا من خلال التشكيك في قدرة المادة (الحجر أو الصباغة) التي يستخدمها الفنان على إثارة شهوانية وحياة الإنسان. إذن، اللمس يتوافق مع النحت و البصر مع الرسم. ومن خلال النحت، يجد الإحساس نقطة ارتكازه، لأن النحت له السمة المزدوجة للغة المفصلية : فهو يقدم نفسه كشكل خارجي للحالة الداخلية. وما يجعل هذا التشبيه باللغة أكثر إرضاءً بالنسبة إلى وليام غوتفريد فون هيردر هو أنه يتضمن التواصل مع الآخرين : فنحن نستوعب الطابع التعبيري للشخصية المنحوتة من خلال عرض أنفسنا في شكلها داخل مخيلتنا بالكيفية نفسها التي نستوعب بواسطتها الأصوات أو الصيحات أو الأغاني التي ينطق بها غيرنا. أما عندنا بالمغرب، فالنقاش المثار حول النحت لم يتعد قضية ما إذا كان حلالا أم حراما، ما يجعل النحاتين يعانون من الأمرين، ولا حاجة إلى الزيادة في الإيضاح.بحيث إن النحات يبذل قصارى ما في وسعه لكي لا يقول الناس بأنه صانع أوثان. هكذا تتفاعل المعرفة حول المادة عند محمد غزولة في مراوحتها بين الإدراك البصري وبين الإدراك بواسطة اللمس ملهمة إياه تارة أعمال مرسومة، من ذلك على سبيل التمثيل وليس الحصر البورتريه الذي رسمه للفقيد الزجال عزيز الموصمادي، وأعمالا منحوتة تارة أخرى تمتح من الهوية الثقافية أشكالها التعبيرية : رقصة كناوة، آلات موسيقية مثل الساكسوفون، الكونترباص والكمان…كما تناول محمد غزولة في معرضه الأخير موضوعة جديدة تتمثل في اللعب لدى الطفل، حيث جسد لعبة الكريات الصغيرة. وككل تجربة فنية طرح محمد غزولة مفارقة تكمن في تضمين عنصرين في مجسماته المنحوتة : الأيادي ذات الحجم الكبير وفكرة اللعب الطفولي في حد ذاتها، ما يسمح بالحديث عن هذه الأعمال ليس فقط انطلاقا من الأبعاد الثلاثية للمنحوتات، وإنما أيضا من خلال بعد رابع هو الزمن الطفولي الماضوي المستمر في جريانه الدائم في حاضر البالغين ومستقبلهم الآيل حتما إلى الكهولة والشيخوخة. أليس الطفل هو أبو الرجل؟. هذه القراءة التحليلنفسية تسمح بانكشاف رسالة النحات محمد غزولة لا كتعبير عن الإحساس بالحنين، بل عن امتداد الماضي بوصفه العنصر المفسر للشخصية الإنسانية، ما يتيح القول :في كل شخص يرقد طفل نائم ،على أهبة لكي يستيقظ من سباته كلما وجد فجوة زمنية هاربة.