النص الكامل لِ'مذكرة إلى من يهمه الأمر' بقلم الأستاذ عبد السلام ياسين بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وإخوانه وحزبه 3/3 “جنازة رجل” ! : كان يحلو للحسن الثاني رحمه الله أن يحدث بعض زواره عن أول درسٍ تلقنه مباشرة بعد وفاة والده محمد الخامس رحمه الله . فخلال جنازة محمد الخامس ، وضع نعشه أمام الحاضرين ونادى المنادي : “الصلاة على الجنازة ، جنازة رجل” ! “رجل” ، رجل مجرد من كل تنويه ، أو تشريف ، أي أن رفات ملك ليس في نهاية المطاف بالنسبة للأحياء المبهوتين أمام هذا “الرجل” سوى منبه لهم عما ينتظرهم : الموت والرحيل من دار الدنيا لدار الأخرى .فهل توقف الحسن الثاني -الذي أذهله المشهد الرهيب لرجل بطل تربع على قلوب المغاربة حيا- عن الاعتبار بعد أن وارى جثمان أبيه التراب ؟ هل نسي الدرس والإنذار ؟ لم الإعراض عما هو آت لا محالة ، والتسلي عن النهاية الحتمية التي تنتظرنا ؟ سوف نعبر السبيل بسرعة ، ليكون الكفن والدفن بعد ذلك . وجد الكفار حلا للذعر الذي ينتابهم حين يفكرون في الموت ، فقبلوا أن يكونوا في نظر أنفسهم مجرد حيوانات لا معنى لها آيلة إلى عدم بعد وجود . الموت عند هؤلاء و عند من ينظر بمرآتهم هي المأساة العظمى التي يجب نسيانها حتى يتمكنوا من الاستمرار في الحياة ، من التمتع بالملذات التي تهديها لهم الحياة ، من الانهماك في التهام “الأغذية الأرضية” للحياة ، من الانغماس في ملاهي الحياة ، من التعاطي للمخدرات المادية والمعنوية لنسيان عبثية الحياة ، من البقاء أحياء في ذاكرة الناس عبر إنجاز فني أو مشاريع ضخمة ، من ترك إرث ضخم للأبناء ، أو اكتشاف علمي للبشرية ، أو عمران أو مؤسسة خيرية للمدينة . أو أنهم يطردون بكل بساطة فكرة الموت والصور الفظيعة للجثث المتعفنة بعد الموت . أما المسلمون المؤمنون بالله عز وجل وبرسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيعتبرون ذكر الموت فكرة تسكن دقائق عمرهم ، إذ لا بد أن تصاحبنا صورة “الرجل” الذي سنكونه اليوم أو غدا . يذكر المؤمنون الموت عند الاستيقاظ و عند النوم ، وخاصة في صلواتنا ومواعظنا . وذلك حتى تظل حقائق ما بعد الموت حاضرة في أذهاننا ، حقائق البعث والحساب عما اقترفته أيدينا ، والحكم الذي سيصدره الحَكَم العدل سبحانه ، ثم الجنة التي سيخلد فيها السعداء والهاوية التي سيلقى فيها الأشقياء . ياحسرةً على الإنسان الحديث ، المثقف أو المتثاقف ! لايرى فيمن يحدثه عن الموت سوى مخرف مختل أو عُصابي أو مجنون مآله مستشفى الأمراض العقلية . يا للحسن الثاني المسكين ! كان يحلو له أن يحدث بعض ضيفه عن الدرس الكبير الذي تلقاه أمام جثمان أبيه رحمه الله . ثم يجتهد بعد ذلك في نسيانه . مساكين نحن الذين نزعم في المحافل و على صفحات الجرائد أننا “جميعا مسلمون” ! متنكبون عن الإيمان نحن ، لاهون عن الإيمان ، جاحدون به ، خائنون له ، أعداء لأِنفسنا ، كأننا خالدون في هذه الدنيا !مسكين يا حسن ! تأثرت بمشهد أبيك -عفا الله عنكما- الذي أصبح مجرد “رجل” تصلى عليه صلاة الجنازة ، ثم سرعان ما نسيت ، بدل أن تتصرف كرجل يهتم بمصيره بعد الموت . عَبَبْتَ من الكأس الذي تقدمه الحياة الخداعة لأمثالك : شباب وغنى ، صحة وشهرة … استسلم الحسن رحمه الله وعفا عنه لكل المغْريات ، متفننا في مراودتها . كانت “حرفته الملكية” -كما كان يحلو له أن يصف وضعه- تضع رهن إشارته كل الوسائل ، وتمكنه من انتهاز كل الفرص للظهور بمظهر الملك العظيم ، والتلذذ بأصناف الملهيات المسكرات التي تهديها له الحياة . موعظة وعبرة : يا أيتها النفس البريئة ! ويا أيها الملك الوارث للملك ! يا أيها الرجل الذي ستصلى عليه صلاة الجنازة طال العمر أم قصر !لو كان الحسن الثاني مجرد فرد من الأفراد ، مجرد واحد من أبناء الشعب لَعَطفنا عليه -نحن المذنبين المقصرين الواقفين على باب الله- ولضربنا عنه صفحا ، لكنه كان ملكا . كان !!! وتلك هي العبرة التي على ابنه محمد السادس أن يستخلصها من مشهد “الرجل حسن” الذي حمل نعشه هو شخصيا إلى مثواه الأخير ، عليه أن لا يدع هذه العظة تخبو في ذاكرته . فهو اليوم ملكٌ ، وهو غدا “الرجل” المسجى لا محالة . إن الحسن الثاني نفسه ، هذا الذي رفع الشعار الثالوثي : الله ، الوطن ، الملك ، قد أصبح من بعد شيئا لا حول له و لا قوة ، مكفنا داخل تابوت مذهب … وما قيمة التابوت المذهب أمام حقيقة الموت !ومشى العاهل الشاب في موكب المتأله “المعصوم” ، وشهد الحفل الوثني المنظم كل سنة ، والذي تقام فيه شعيرة البيعة المخزنية التي تلزم كبار الشخصيات في البلد بالركوع خمس مرات أمام الصنم البشري قبل أن يدفعهم الخدم المُطَرْبَشون ، ويسارعوا إلى رص صفوف باقي العباد الخاشعين .كيف نريد بعد هذا من هؤلاء الوجهاء المروَّضين كل سنة على الركوع للوثن ، المبتهج بأن أصبح مركزا للكون ، أن تبقى لهم ذرة من كرامة ؟ لاشك أن هذه الكراكيز المجلببة المعممة تحس بحقارتها حين تتقمص جلد الخادم الجاثم عند قدمي سيده . لطالما شهد الملك الشاب الدروس الرمضانية والحفلات المقامة في ضريح جده . تجمعات ضخمة ترصد لها ميزانيات خيالية مما تدره الأوقاف . ويا للأوقاف ! خلَّف الأجداد للأحفاد ما به ينفقون على شعائر المسلمين ويسدون حاجة المحتاجين منهم . أي خيانة هذه لمخزن لم يكتف بتحويل تركة الموتى إلى جيوبه بل أنفقها على حفلاته الوثنية !لابد أن يختار الملك الشاب بين طريقين : إما أن يُخلص لعرف عفّى عليه الزمن فيتبع خطوات أسلافه حذوك القذة بالقذة وبئست السبيل هي ! وإما أن يعقد العزم على اقتحام العقبة والتكفير عن الجرائم التي كان أحد شهودها . إذا اختار الملك الشاب أن يبقى التقليد الموروث وصيا عليه متوجسا من خرق “ما جرت به العادة” وتجاوز “القاعدة” ، فسنعلم أن لا أمل للبلاد في الخروج من مأزقها ، وأن الدعوة إلى احترام التعاليم الإسلامية ، التي كان يعلنها الحسن الثاني رحمهُ الله وعفا عنه والتي سيعلنها سلفه السالك سبيله ، ليست سوى تمويه مفضوح . أما إذا صحا قلب محمد الآئب إلى الله ، الموقن بما ينتظره ، المستعد للقاء ربه ، فلا بد أن يجتهد في تفكيك “إمبراطورية الشر” . لقد كسب الملك الشاب في بداية هذا الشهر -نونبر 1999- الجولة الأولى في معركته مع هذه الأمبراطورية حين طرد الوزير المنفذ لكل جرائم الحسن ، وكيله في عملياته الخسيسة . تفاؤل كبير و تحديات أكبر : إنها ، لعمري ، ضربة هدت البناء المخزني الهاري ، ضربة تبعث على التفاؤل ، والملك مدعو ليكمل عملية التطهير ويَكْنِسَ الساحة من الأنقاض حتى يتسنى له إقامة بنيان جديد بدل ذلك الذي نخره السوس . فانتهاك الحرمات والدوس على الكرامات لا يمكن أن يُمْحيَا من ذاكرة المغاربة إذا لم تستأصل شأفة الشجرة الملعونة . جُرِّدت الدعامة الأساسية للمخزن من وظائفها ، اليد اليمنى للحسن الثاني ، أمين سره ومستودع ثقته . لعلها كانت خطوة مقتحمة خاطفة ، ومنعطفا حاسما ! منعطف نحو ماذا ؟ : لم يكن الوزير الذي كان يسخره الحسن الثاني سوى شخص مسكين ، منفذ ، كبش فداء تُصَوّبُ إليه السهام بدل تصويبها للملك . فماذا عَسَى يحدث تغيير أداة إذا كان يراد للجهاز المعتل أن يستمر ؟ هل يمكن لمن باعوا أنفسهم للشيطان أن يرعووا عن غيهم لمجرد التضحية بواحد منهم ؟ يتحدث الملك الشاب في خطاباته عن “مفهوم جديد للسلطة” ، ويقدم الدليل على استعداده لتطبيق هذا المفهوم . فبعد الإشارات المتتالية ، كانت الضربة الكبرى التي أهلته لاجتياز اختبار الصدقية بنجاحٍ . فهل ينوي حقا القطيعة مع الماضي ؟ وهل يستطيع ؟ إنها من دون شك ثورة صغرى ، فمتى موعد الكبرى ؟ أي مستقبل لمحمد السادس ، وأي مستقبل للمغرب ؟ : لا مستقبل لهما إذا لم يقيما الأساس على أرض الإيمان التي لا تتزعزع . فلقد كان الإبعاد المهين للشخص الممقوت في أعين الشعب خطوة سياسية كبيرة ، لكن من يسد ثغرات تناوب هش ، ومن يملأ فراغ المشهد السياسي الناتج عن إزاحة آجرة من البناء المخزني ؟ يمكنكم أن “تسايسوا” وتعثروا على وجوه ذات أقنعة إنسانية ، لكن كيف السبيل إلى مَلْءِ الفراغ الخلقي الذي لم يكن الوزير الكريه سوى مظهر له ؟ من للخواء الروحي المتجسد في الحفلات التي كان الحسن الخطاء يقيمها ؟ من للاقتصاد ولمال الأموات والأحياء الذي كان الوزير المنبوذ يشارك بنشاط في انتهابه ؟ لا أمل لمحمد بن الحسن ولا لمغرب محمد مادام الإثنان يخبطان في ليل الارتجال ، ولا مخرج للجهاز المخزني من المتاهة التي يدور فيها مهما بلغت جرأة الملك الشاب ، ومهما تعددت إنجازاته المقتحِمة ، ومهما عظمت الآمال التي يجسدها في أعين الشعب المعبر عن ارتياحه . فمادام مشروع المجتمع المحدَّد بوضوح ، المعَبِّئِ للشعب ، كلِّ الشعب ، غائبا فلا أمل في الإفلات من طوفان يوشك أن يحل ! القطيعة المرجوة : حقا ستتوارى ظلال مراكز القوة -من أمثال أوفقير والدليمي- من الساحة ليحل محلها جلاوزة يخدمون العرش كما خدمه الوزير الطريد ، سيظل السوس ينخر في جسم النظام ، وبعد الضربة المفاجئة ، ستتوالى الانتكاسات وخيبات الأمل . لا مخرج ما بقي ذوو النزعات الخسيسة لا يستمعون لصوت آخر غير صوت أنانيتهم الضحلة و”عبقرياتهم” المهووسة ، ولا يتعالَون عن البلادة البشرية ، والظلم البشري ، والفسق البشري ، والوحشية البشرية التي يتفنن في تجسيدها الجلادون . لا أمل لملوك الحكم المطلق في الانعتاق من قبضة الشيطان ، وللشعوب المسخَّرة لها الغارقة في مستنقعات البؤس المادي والثقافي والسياسي والخلقي إلا بالتمسك بالحبل الممدود من السماء ، حبل الله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض . مستنقعنا المغربي أسِنَ ماؤه وفاحت رائحة عطنه ، فلا نطمع في أن تنجح “إشارات” صغيرة هنا وهناك في تجفيف مائه الراكد وتفريغ وحله العفن . يالها من مهمة تلك التي تقتضي التشمير لتنحية القاذورات ! ما أنبل أن ينذر المرء حياته لتطهير البيئة من النفايات وتهييء الأرضية للبناء ! سيدعم الشعب عملية التطهير وإعادة البناء إذا ما دُعِيَ إلى ذلك بعْد أن يثق بالداعي . فالطاقات متوفرة ، والكفاءات مستعدة ، لكن تعبئتها واستثمارها يتطلب الاعتراف بالقُصور والاعتذار عن تاريخ المقصرين حتى يتحفز الجيل النظيف ويفتح عينيه على ما حدث وما يحدث . لابد أن تنسحب مع عملاء الظلام سنَّة التعتيم والتضليل السيئة . كان العهد الزاهر “للحسن الباني” عبارة عن سلسلة من التنازلات السياسية والثقافية للأجنبي المتواطئ مع حكم مطلق ينيخ بكلكله على صدر الشعب . يعلم محمد السادس قبل أي شخص آخر -وهو الذي طالما قاسى من والده الأمرين- كيف كان الملك الراحل يعامل المغاربة -المقربين منهم والمسخَّرين- وكيف كان يخاطبهم “بلطف ولباقة” عز لهما النظير . أما الأجانب فكانت لهم عنده الحظوة التامة .كانت مصادقته بل تواطؤه مع مسانديه من الأجانب سرا شائعا يعرفه الخاص والعام . من الذي لم يسمع بتَوادِّه مع الصهيونية العالمية واهتمامه الكبير بها ؟ ألم يشهد الشعب المغربي ، مبهوتا ، حفل استقباله للحاخامات الداعين “لأمير المؤمنين” بطول العمر المبتهلين إلى “يهوه” أن يحفظ عرشه ؟لقد كشفت الصحافة الأمريكية كيف كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تسهر -بتعاون مع الموساد الصهيوني- على سلامة الملك الراحل ، وكيف كان أصدقاؤه اليهود عقيدة ، الصهاينة إيديولوجية ، يحظون بحدبه وحفاوته . لمْ تسْلُ الدولة الصهيونية أحدَ أهمِّ أولياء نعمتها ، فسمت بعد رحيله 70 شارعا وممرا في إسرائيل باسم الحسن ، كما شاركت الحكومة الصهيونية والمنظمات الصهيونية التي يتزعمها يهود ذوو أصل مغربي في الاحتفالات الإسرائيلية المخلدة لذكرى “الصديق المخلص” . تفانى الصديق البارز لليهود الصهاينة في إرضائهم ، وبذل كل الجهود لخدمتهم ، فانطلقت ألسنة السوء تصف النظام الحسني بأنه حكم يهودي . فهل هي مجرد مبالغة ؟ من هذه الغَيابات المظلمة ، من هذا التيه ، يجب أن ينعتق محمد السادس بتبرئه الصادق الواضح من حماقات والده المهينة للدين والخلق ، ومن أخطاء شبابه هو ، ومن الخطايا القاتلة التي لن يمحوها إلا توبة صادقة إلى الله .وإن مجافاة هذه السياسة الممقوتة التي تقوم على خيانة الشعب الفلسطيني الذي تجمعنا به الأخوة الإسلامية لن تكون مهمة سهلة . ما زال “معارف” الأب الراحل يصدون عن ذكراه كل هجمة ويحمونه من كل انتقاد . فحين أعلن مثلا المرصد الدولي للثروات الدولية أن الحسن كان من أغنى الرجال في العالم ، سارعت الأيادي الخفية إلى طمس النبإ وحذفه من عناوين الأخبار . ولا عجب ، فنحن نعلم من يمسك بأعنة الآلة الإعلامية في أمريكا ، بل في العالم أجمع . تغيير عميق : خلف الملك الراحل ، عفا الله عنه ، ثروة خيالية ، تركة مسمومة لمحمد السادس وإخوته . فهل يستجيب الورثة المسلمون ، حفدة النبي صلى الله عليه وسلم لداعي الحرص فيتمسك كل واحد منهم بحصته من الغنيمة التي نعرف كيف تم تجميعها ؟هل سيسائل الملك الشاب والأمراء والأميرات ، هل يستطيعون مساءلة ضميرهم عن الهوة الهائلة القائمة بين شعب غارق في أوحال البؤس الأسود وبين ورثةٍ تهاطلت عليهم فجأة سيول من ذهب وفضة . هل يمكن للخاطرة البريئة ، خاطرة مقارنة وضعهم بوضع غيرهم ، أن تتسلل إلى دهاليز النفسية المتمرغة في الديباج المترعرعة بين أسوار القفص الذهبي ؟ هل يتواضع ضمير الأمراء المصنوعين على عين التربية الغربية فيلقي يوما ما نظرة على وضع الأغلبية الضاربة جذورها في تربة الحرمان والأمية واليأس ؟ يبدو أن العاهل الشاب ينتمي إلى هذه الطينة التي يأرق جفنها لتعاسة الفقراء ، بدليل انحنائه المؤثر المتأثر على الصغير المعاق ليقبله ، وعطفه على المحرومين المصطفين أمام بيته المغمورين بعطائه ورعايته … أمارات تحفز الأمل في قلوبنا ! هل يستطيع الملك الشاب ، الملك الطيب الجواد ، أن يتوغل في هذا الطريق المضيء ؟ هل هومقتنع به ؟ هل يقدر على إقناع نفسه بأن الوضع خطير ، وبأن حاجة الأغلبية الصامتة لا يمكن أن يلبيها إلا تغيير جذري يستأصل شأفة التهميش الاجتماعي ، والفقر المدقع ، والركود الاقتصادي ؟الوضعية المهينة للمرأة ، الاستغلال البشع للأطفال ، الشباب العاطل المخدر الذي يزرع الرعب في الأزقة والحارات ،كلها جروح اجتماعية دامية تشهد على بؤس المغرب الفقير . والشبيبة الغارقة في وحل الجريمة هي الوجه الآخر للشبيبة المستبشرة الهاتفة خلال الموكب الملكي . لصياغة معادلة الوضع المخزني ، واستشراف المستقبل بجدية ، لابد من الاستناد إلى معطيين اثنين : * أولهما أن الدَّيْن الخارجي الضخم يجثم على ميزانية البلد ، ويشل كل محاولة تصحيحية جادة ، يُسنده في ذلك الغش الإداري والبطء البيروقراطي والفساد المالي … عاهة مغرب حكام الجبر ولعنة مغرب المستضعفين ! * وثانيها أن الملك الشاب والأمراء و الأميرات شركاء في تركة الرجل الهالك ، لكل منهم نصيب من الثروة القارونية التي خلفها . * فلنقرن المعطيين حتى تتبدى لنا بدهية الحل الجذري لمشكل الفقر الذي يقض مضجع المغاربة : أن تخصص هذه الثروة الهائلة لتسديد هذا الدَّيْن الثقيل ومحو كابوسه الرهيب . بذلك يرتقي الملك الجديد إلى مقام الأبطال . حينئذ يكون له موعد مع المجد لن يُخْلَفَه ! اقتراح تبسيطي ساذج ؟ أم هو الهوس والجنون ؟ : هل للملك الشاب ذي القلب الرحيم همة الأبطال المراودين للمحال ؟ هل يملك من الخيال “الساذج” ما يؤهله للتعالي عن منطق الانهزام والاستسلام ، ليفكر في سياسة أخرى مغايرة يعمل ما في وسعه لتطبيقها . منذ ما يربو على أكثر من ربع قرن من الآن ، كنت اقترحت على الملك الراحل مثال رجل صالح ، نجمة مضيئة في سماء التاريخ الإسلامي . إنه الرجل الذي تحدى منطق زمانه وعقلية زمانه وحزبه لكي يراجع النظام الذي ورثه ، والأفكار والتقاليد التي كان قد تلقاها من سلالته وذويه . فعل ذلك فرسم لأحداث عصره مسارا جديدا . عمر بن عبد العزيز منار نستهدي به في تاريخ ما بعد الخلافة الراشدة . نُصِّب ملكا بعد وفاة ابن عمه سليمان بن عبد الملك ، فبان للناظرين معدنه النقي حين استهل عهده برد مال الأمة إلى الأمة ، وأمر الأسرة الملكية بإرجاع أملاكها إلى بيت مال المسلمين ، ابتداء من زوجته التي سارعت -بعد أن بهرها مارأت من ورع زوجها وحزمه- إلى وضع كل حليها عند قدميه . إنه المثال الذي تقدمت به يوما ما بين يدي الملك الراحل “بسذاجة” فطرية ، والذي أقترحه اليوم دون كثير تفاؤل -أعترف بذلك- على ابنٍ فانٍ يوما ما لا محالة لأب قضى نحبه . لكن مثال عمر بن عبد العزيز رغم شهرته ليس فريدا في تاريخنا الحافل برجال عظام طبعوه بقوة ، من أمثال يوسف بن تاشفين . ما أيسر أن نحلل هذا الاقتراح ونوصفه ! لكن محك الواقع يوشك أن يعري عن جسامة المهمة ، إلا إذا … إلا إذا رنا محمد السادس ببصره إلى العلياء ودشن العهد الجديد بتحرير البلاد من القبضة التي تخنق الحاضر وتحول الأمل في التقدم الحثيث إلى أضغاث أحلام . هذا المشروع العظيم ، مشروع رد مال الأمة للأمة ، إذا ما حدث أن نما في الضمير الملكي ورفع الساعدُ الفتي لواءه ونافح عنه ، سيمكن الملك الشاب المبتدئ المحاط بالأفاعي الحربائية من الارتقاء إلى مصاف الأبطال المنقذين ، الداخلين إلى التاريخ من أوسع أبوابه ، الداخلين على الله عز وجل من باب الرضى والرضوان . ولنعلم أن أجل النظام المخزني الحسني لم يحن بعد ، مادامت فيروسات التعفن الإداري تعمل فيه ليلا ونهارا ، ومادام الإدمان على الارتشاء والانتهاب ديدن الموظف المخزني السامي مثلما هو هواية نظيره في أسفل السلم السلطوي . لذا سيستميت هؤلاء وأولئك في الدفاع عن امتيازاتهم وسيحيكون المؤامرة تلو المؤامرة . لكن بالإمكان تطهير الإدارة الفاسدة ، وبعث الحياة في أوصال جهاز هرم ، وإنشاء نظام للتضامن الاجتماعي يقوم على التنمية والتشغيل بدل الاقتصار على الصدقة العمومية والخصوصية . ذلك إن وفَّى محمد بشرطه . وبعد أن يخطو الملك الخطوة البطولية الحاسمة ، سيكون له الحق في أن يدعو الجميع إلى التضحية وتحمل المسؤولية والاستقامة والتفاني في سبيل إعادة بناء مغرب جديد ، مغرب ظل حلما يراود المغاربة دهورا طويلة . عقبات : هل هي هلوسة وتخريف ؟ كلا ! بل هو حل يمليه العقل المتعقل ، حل صعب للغاية ولاشك ! فالعالم الذي نعيش فيه ليس مدينة فاضلة تنتفي فيها الضغوط والمقاومات . ففي الخارج ، ستتوجس الهيآت المالية الكبرى وشركات الإيداع من مشروع سيهدد مصالحها بتحويل مباغت لأرصدة هائلة ، ولن تلبث أن تقاوم . لا غرابة في ذلك ، فالإنسان مجبول على التمسك بما يملك من متاع الدنيا . ليس استرداد الثروة المُودعة في ديار الغرب مجرد حل سياسي متميز ، بل هي قبل ذلك واجب ديني يملي على الوارث الشاب أن يعيد للشعب ما انتهبه “أب العائلة المغربية” الراحل وكدسه . لابد أن يعزم الملك الشاب ذو القلب الطيب والمبادرة الحيوية ، على التفكير جديا في حل جذري لمسألة هذه التركة الثقيلة ، وإلا غاص المغرب في مستنقع الركود والتخلف أكثر مما مضى . وستبدو وجاهة هذا الاقتراح الجريء للعيان ، سيكتشف الذين لا يرون فيه سوى تخريف محموم أو هذيان مهووس أو مؤشر على جنون حالم أنه عين الحكمة . أليس من العبث أن تُملأ الدنيا تطبيلا و تزميرا لمؤسسة الحسن الثاني التي ما اختمرت فكرة تأسيسها إلا في رأس مخبول أو ذهن منافق مكار ؟ أليس من المضحك المبكي أن نقرن اسم رجل يعرف الخاص والعام أنه من بين أكبر قوارين هذا الزمان بتدبير المليار اليتيم ثمنِ الرخصة الثانية للهاتف النقال ؟ ألسنا نغتاب هنا رجلا رحل فانطلقت ألسنة السوء تنسب إليه ثروات وهمية ؟ أم هو لغط إعلامي يلهث خلف الإشاعة سعيا نحو الإثارة ؟ فلنعلنها إذن على رؤوس الأشهاد أن الأمر كذب في كذب ! ولنصارح الشعب بالرقم الدقيق أو التقريبي … لِمَبْلغِ الأملاك المنهوبة ! المفاهيم الجديدة : بما أن “أب الأمة” الشاب يمسك الآن بمفتاح التغيير الحقيقي ، وبما أنه يقترح مفهوما جديدا للسلطة ، فلتكن خطواته موافقة لمفهوم جديد للعدالة وللتوزيع العادل ، توزيع الخيرات على جميع أفراد الأسرة المغربية . لا مناص له من الالتزام بتصور جديد للاقتصاد والتنمية إذا كان حقا يريد إخراج البلاد من النفق الضيق . فالتعادل الحاصل بين ممتلكات ملك المغرب والدَّين الخارجي للمغرب فضيحة أزكمت رائحتها الأنوف . أصبح الدَّين الخارجي يمتص الآن -بعد تقليص النفقات الناتج عن تطبيق التقويم الهيكلي- حوالي 36% من الناتج الخام للمغرب . وهي النسبة نفسها التي تمكن الاقتصاد المغربي -إذا ما بلغها معدل الادخار الوطني- من الإقلاع بسلام . وتلك معادلة لا يدرك أبعادها المحاسبون الواقعيون المنكبون على أعدادهم الصغيرة ، و إنما يدرك ذلك المغاوير المقتحمون . فعل واحد ، فعل تاريخي حاسم إذا ما قام به الملك الشاب سيكون كفيلا بتحرير رقبة المغرب من غُل البنك الدولي ، وحمايته من إرهاب هذه المؤسسة الكاسرة التي أرغمته على الخضوع للتقليصات الوحشية رديفة سياسة التقويم الهيكلي وقصمت ظهره بتكلفتها الاجتماعية . أمام الخراب الاجتماعي الناتج عن استحكام قبضة البنك الدولي على الاقتصاديات المثقلة بالدين ، نحاول أن نخفف من وطأته على الطبقات الفقيرة فنتحدث مرة عن المقاولة المواطِنة ، وندعو مرة ، بل مرات ، إلى حملات التضامن الاجتماعي …! فهل تتجاوز يد محمد السادس الممتدة إلى الفقراء تُضمِّدُ جراحهم مرحلة الصدقة المنظمة ؟ هل يتحول الملك يوما ما إلى ملك مواطِن ؟ نعم ، إنه يسوق سيارته بنفسه ويتوقف عند الضوء الأحمر . شيء جميل لكن هل يكون ذلك كفيلا بجعل السلم الاجتماعية يسود في أنحاء البلاد . سيكون لتصفية ملف الدَّين بالثروة الملكية إيجابيات يعجز اللسان عن عدها . فالاستثمار سينطلق بعد توقف ، والمال المخصص اليوم لتسديد أقساط الديون سيُحَوَّل نحو الاستثمار العمومي ، والتعليم والتربية اللذان نَكَصا بالبلد إلى المرتبة 125 بين بلدان العالم سيطفوان إلى السطح . ستتحسن البنية التحتية المنهارة أو المنعدمة في المناطق القروية ، وسيفك الحصار الاجتماعي والجغرافي المضروب على المناطق المحرومة ليَتراجع مد الفقر الجائع . ستُجَفَّف مستنقعات البطالة بعد أن تُستعمل مضخات أكثر فاعلية من تلك التي تُشَغِّل ألفا من العمال هنا أو مائة من الدكاترة والمنهدسين هناك . وبعد الضربة الحاسمة ، يستطيع العاهل أن يهجم -مسلحا بالسلطة الأدبية اللازمة والوزن الخلقي المتميز- على الرشوة والفساد اللذين يَبث فيروسَهما الإعلام المغربي . فلا انطلاقة بدون تخليق للسياسة والإدارة والمجتمع . ولا تخليق للرعية ما لم يتخلق الراعي ، ولا فعل هناك يستحق الذكر في صحف التاريخ ما لم يكن فعلا أخلاقيا ! حينئذ يمكننا أن نفكر -متسلحين بالوسائل الاقتصادية والمالية- في الخلاص العام والولوج إلى عهد جديد … عهد الشفافية والديمقراطية الحق … الديمقراطية ؟! : نطقت بالكلمة السحرية ! بالكلمة التعويذة ، بالكلمة المفتاح لكل المغاليق ! لا مجال هنا لمناقشة مبادئ الديمقراطية الحق والتقدم الذي يمكن أن ينتج عن حلولها ببلادنا . فالقاعدة الديمقراطية المتمثلة باختصار في حق الشعب في اختيار حاكمه بكل حرية هي المخرج الوحيد لنا من ظلمة الحكم المطلق . ولا مجال هنا لمحاكمة ديمقراطيةٍ نخرتها العلل في عقر دارها. حين أتحدث عن القاعدة الديمقراطية فإنني أميز بين المسطرة والتنظيم ، وبين رديفة الديمقراطية الحديثة وخليلتها : اللائكية وتجاهل القيم الروحية والخلقية ؛ فإذا ما أخذنا بالقاعدة والمسطرة ، كان لنا الحق كل الحق في نبذ كل ما يبعدنا عن علة وجودنا وغايته : إسلامنا . لقد طال تهميشنا من الساحة السياسية . فلنا الحق إذن في التحفظ على إمكانية أن يكفر الملك الشاب عما سلف في حقنا ، لكننا انسجاما مع حكمة الإسلام التي تقبل التدرج في التوبة والإنابة لا نستعجل . وانسجاما دائما مع هذه الحكمة الإسلامية ، سنظل ثابتين على مبدإ الاقتراح الرصين من موقع “القوة الهادئة” التي تقترح وتدعو . فلينظر العالَم هل الربان الذي يقود السفينة -بعد طرده للقراصنة- هوحقا مستقيم ومتبصر ، ولنبرهن للشعب المكدود المكلوم بأفعال رجولية حاسمة على أن عهد الحكم المتجبر قد ولّى إلى غير رجعة ، وأن نسمة الأمل التي هبت على الشبيبة من قلب الملك الشاب ليست مقدمة لريح صرصر عاتية ، ليوقن هذا الشعب أن ورثة الثروة القارونية لن يذهب بأبصارهم وميض الذهب المنهوب ! لن تسد الثروة الموروثة خرق الدَّين الخارجي الواسع فقط ، بل يمكنها أن تلبي الحاجيات الملحة للمغاربة . وليعلم الملك والأمراء والأميرات أنني حين أقترح عليهم التوبة وإرجاع مال الشعب إلى الشعب لا أطالبهم بإخلاء فيلاتهم ومساكنة المغاربة المحرومين في دورهم الصفيحية البئيسة . فالملك ، ممثل الدولة ، لابد أن يتوفر على الوسائل المادية المناسبة لمركزه . وللأمراء والأميرات -بعد أن يظهروا تضامنهم المشروع مع النموذج المقترح- الحق في امتنان الشعب لهم ، بل سيكونون حينئذ من الفائزين برضى الله عز وجل . فليقرأ الملك -حفيد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمن بربه- وليعمل على إقراء ذويه كتاب الله عز و جل و سنة نبيه صلى الله عليه وسلم . فآيات القرآن و تعاليم السنة النبوية تفصل جزاء الحائفين الجائرين و تلعن الظلم و الظالمين . ستكون قراءة “كتاب المظالم” من صحيح البخاري في هذا الشأن موعظة منيرة للجميع . أتمنى للملك الشاب من العزم والشجاعة ما يمكنه من اقتحام هذه العقبة الكؤود وأُذَكِّره مرة أخرى مودعا : كفِّر عن مظالم أبيك المسكين وخفف عنه الحساب العسير ! رُدَّ إلى شعبك ما سلب منه ! تُب إلى الله وكفِّر عن خطاياك وخف ملك الملوك ! والله يتولى الصالحين . ملحوظة : حررت هذه الصفحات بالفرنسية لأسباب واضحة . أولها أن الهيآت الدبلوماسية والإعلامية لا تقرأ إلا ما حرِّر بلغة أوربية … ثم إن هؤلاء السادة والسيدات “المفرنكين” لا يرون في ما ينشر بالعربية سوى ثرثرة ممجوجة ، فهذه اللغة ليست في نظرهم الكليل سوى أداة محلية يتواصلون بها مع الرعاع الأميين . مهما جهدت لتتواصل مع النخبة المغربة ، فخطابك ليس سوى لغط مبهم مادمت تتحدث بالعربية ، خاصة إذا كنت ملتحيا لا يتشدق بكلام أهل الحرفة الصحفية ولا يتمضمض بالصيغ المهجنة .