بقلم ذ يوسف ابعوز عضو المكتب السياسي لحزب الديمقراطيين الجدد، مكناس لقد كان لنتائج مرحلة "كورونا" دور كبير في الكشف عن العيوب والنواقص البنيوية الكبرى في بلادنا على المستوى التنموي، وإن كانت المؤشرات قبل ذلك بكثير معروفة لدى المتتبعين والدارسين من خلال التقارير الدورية الرسمية منها والدولية لذا تقع على عاتق الحكومة المقبلة الكثير من التحديات الاقتصادية والإجتماعية، يشكل النهوض بها محكا حقيقيا ومجالا لاختبار صدق الوعود والشعارات التي تم رفعها إبان الحملة الانتخابية، وإذا كان المعاش اليومي كاشفا عن الحال في كثير من التفاصيل، فإن الحجم الكبير لإنتظارات المواطنين يزيد من حجم المسؤولية على الجهاز الحكومي الجديد. ولئن جاز القول بأن قطاعات ما قد يظهر فيها مستوى معين من الإنجازات، خصوصا الجديدة منها، كما في بعض مجالات الصناعة (الطيران، السيارات)؛ فإن القطاعات الاجتماعية عموما، وفي مقدمتها قطاع التعليم الذي يشكل ميدانا نموذجيا لإبراز مستوى الجدية والمسؤولية في تسريع وتيرة إنجاز الأوراش الكبرى لبلادنا، وذلك لاعتبارات عدة يقع في مقدمتها عدد الأطر التي يشغلها، وتلك التي ينتظر أن يضمها بحكم حجم الخصاص المهول، وثانيا لارتباطه المباشر بالأسرة المغربية من حيث قدراتها المالية وكذا ضمان مستقبل أبنائها، وثالثا لحجم التحدي المطروح اليوم أكثر من أي وقت مضى للحفاظ على الهوية الوطنية، وأخيرا بحكم الأهمية الإستراتيجية للتعليم في توفير الكفاءات بمستوياتها المختلفة من أجل مغرب مختلف في سياق دولي متغير؛ فلا محيد من جعلها ضمن الأولويات الحكومية تنفيذا للتوجهات الكبرى للدولة. غير أني، وعلى سبيل المثال، أرى أن وزير التربية الوطنية المنتظر، وفي تنفيذ منه للسياسة الحكومية المتوقعة في القطاع، لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يتخلى عن خيارات استراتيجية منصوص عليها في كل المرجعيات الأساسية منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين إلى القانون الإطار. وفي مقدمة ذلك موضوع التوظيف بالتعاقد ذاك "اللغم النشيط" في المجتمع، باعتباره اختبارا قائما من بين عدة مقدمات للتحرير الكلي للتعليم مستقبلا، فضلا عن غيره من المواضيع المركزية الشائكة في المنظومة ككل. ويزداد أمر الموارد البشرية إلحاحا في المعالجة بذات النهج اعتبارا لكون كتلة الأجور "الضخمة" في الوظيفة العمومية واحدة من القضايا التي يجب تصفيتها تنفيذا لتوصيات صندوق النقد الدولي حفاظا على التوازنات المالية لبلادنا، ووفاء بالتزاماتها تجاه الشركاء الدوليين، ناهيك عن نهج سياسة الخوصصة الشاملة حيث تخلي الدولة عن القطاعات الإجتماعية لفائدة الخواص تخفيفا لأعبائها الثقيلة، كما يقال، وذلك تحت شعار "قليل من الدولة" الذي تبنته النيوليبرالية ضمن "الفتوحات" التي تحققت للطبقة البرجوازية عبر العولمية وما بعدها حيث السيادة الوطنية مستهدفة في مجالات تدبيرية محددة, ثم إن الجهوية المتقدمة تملي في شموليتها، وكذا تفاصيلها أن يتم نقل الصلاحيات كلها إلى مجالس الجهات والمؤسسات التي تدير الشأن العام فيها، بمعنى أن التوظيف سيكون واحدة من القضايا العديدة والمصيرية التي على الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين أن تتكلف بها في جميع جوانبها بتعاون مع المركز، والشركاء الإقتصاديين والإجتماعيين والمؤسسات المنتخبة في الجهة، وهنا يطرح سؤال المؤهلات التي تتوفر في المنتخبين لتنزيل كل هذه المشاريع المصيرية الضخمة؟ وهو سؤال لا يطرحه المواطن البسيط الذي توجه إلى صناديق الإقتراع يوم 8 شتنبر، إذ لا علم له به، ولا وقت ليبحث فيه إن كان يستطيع. وقد يكون تفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة بشكل حازم أداة لردع المنتخبين المتطفلين على المشاركة في تدبير الشأن العام، وهو ما يحتاج لإرادة سياسية قوية تمتد إلى الجميع دون انتقاء، ولعل التغييرات التي حدثث في الأونة الأخيرة على مستوى المجلس الأعلى للحسابات وكذا في النيابة العامة، تشير إلى تبني الدولة لمنهجية مختلفة من التعامل مع المفرطين في المال العام، المستهترين بالمسؤولية في المؤسسات المنتخبة وفي غيرها, فالأمل معقود على تطبيق القانون، ليس فقط لحماية المال العام، ولكن لدرء ما قد يترتب عليه استمرار النزيف في القطاعات الحيوية والخدمات الأساسية من عواقب اجتماعية واقتصادية وخيمة على المستوى الداخلي، وتراجع الصورة الإيجابية لبلادنا على المستوى الخارجي. إن القضايا الكبرى محسوم فيها استراتيجيا عبر مؤسسات متخصصة تنجز الدراسات والأبحاث (المجلس الأعلى للتربية والتكوين، ولجنة النموذج التنموي نموذجا)، وتصدر التوصيات بشأن مجالات اختصاصها وقد وقع عليها التفاف من القوى الوطنية، إلا من أبي منها وظل خارج المعادلة، من غير تأثير يذكر حسب بعض المختصين بما أن الأغلبية طرف في الإنتاج عبر تركيبة المجالس المشرفة عليها، وطرف في التنزيل عبر الكفاءات الوطنية الحزبية والتكنوقراطية. وحتى لو كان فعلا ما تدعيه بعض الجهات من كون تيارات مجتمعية رافضة تشكل رقما في المعادلة السياسية خارج قواعد اللعبة، فهذا يظل دون تأثير في ظل فقدان الثقة فيها من لدن شرائح مهمة من الوطن، ونتيجة الظرفية الإقليمية والدولية القائمة، فضلا عن استمرار نجاح مسيرة الدولة في البناء الديمقراطي على نسق محدد نحو مستقبل أفضل، رغم بعض الضبابية في مجالات معينة، وبطء العمل والإنجاز في أخرى، والمؤاخذات المنهجية في جوانب محددة من تنفيذ السياسات العمومية التي تفتقر في مستويات من الإلتقائية والتناسق، والتنسيق بين المؤسسات…. لا يمكن المراهنة اليوم على إصلاح قطاع بعينه، والنجاح فيه كورش ظل مفتوحا منذ مدة غير قصيرة، برفع أجور فئة محددة من رجاله ونسانه ليصلح حاله، الأمر يحتاج منظورا شموليا في كل القطاعات. فالموكول إليهم تدبير الشأن العام، وهم من "الباطرونا"، ومن خلال تحالفاتهم الداخلية على مستوى المركز، وامتداد صداقاتهم ومصالحهم على المستوى الدولي مما قد ينفع، يقع على عاتقهم رفع كل مؤشرات التقدم في المغرب عبر عدة مداخل يمكن للنجاح في أوراشها أن يسمح فعلا بنقلة نوعية مرجوة، ولو بشكل طفيف قد لا يمس العمق على المدى القريب، يتعلق الأمر بقرارات ذات طبيعة استراتيجية وأخرى مرحلية تنظيمية ومالية ومنهجية… تفضي نتائجها لجودة التعليم حقيقة، وجودة التطبيب واقعا، والدخل الفردي قيمة… هذا المثلث، على الأقل، يشكل الحد الأدنى لما يمكنه ضمان تحقق بعض التغير في المجتمع نحو الأفضل. وهي في نفس الوقت المواضيع التي لا مفر من طرقها بشكل يحدث التوازن بين مصلحة الماسكين اليوم بزمام السلطة التنفيذية، وذلك باعتبارهم طليعة نخبة ذات مصالح يجب توفير شروط ضمانها استهدافا لتوسيع دائرة الإستثمار المحقق للقيمة المضافة التي يفترض أن يمتد أثرها إلى خزينة الدولة عبر "قانون المالية" وما يتعلق به، خاصة التنزيل الجيد للقانون الإطار للجبايات؛ ولتنعكس بذلك على البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية حيث انتظارات فئات عريضة من أبناء الشعب، سواء منهم من يعي دقة المرحلة أو من لا يعيها. وهذا الوعي قد يبدو أنه لا يهم مادام الجميع يريد العيش الكريم بغض النظر عن الكيفية، وعلى يد من؟ لا ننتظر أن تصير الحكومة الجديدة اجتماعية صرفة، نظرا لطبيعة الخلفية الفكرية التي تحكم رجالاتها، ولطبيعة السياق الدولي، ولكننا نأمل أن يكون مستوى الإستثمار الوطني، وحجم التدفق المالي الدولي عبر الإستثمار الأجنبي الواعد في ظل المتغيرات الدولية، والقرارات الإستراتيجية للدولة المغربية على مستوى السياسة الخارجية، في ظل الإنفتاح على قوى "بديلة" كنتيجة لتغير المعادلة الدولية في الأفق المنظور (التحالف المغربي الأمريكي ، تصاعد قوة الصين…) أساسا لخلق فرص الشغل، ورفع قيمة الصادرات ومعها العائدات المالية الناتجة عن كل ذلك. مع الحفاظ على تدفق السلع الأساسية للسوق الداخلية حفاظا على العرض الموازي للطلب، من أجل حماية القدرة الشرائية المتواضعة عند الكثيرين والمتأكلة لدى آخرين، خصوصا الطبقة المتوسطة المستنزفة ضريبيا، فالراجح أن يكون مفعول هذه المعادلة حيث نظم المصالح الداخلية المتعددة بالمصالح الأجنبية الطموحة، ذا جدوى على جزء مهم من المجتمع المغربي، والمرجوح في الأمر، إن فقد الخيط الرفيع من التوازن، أن تستفيد البرجوازية دون باقي الفئات المجتمعية، وهو ما يشكل إن حصل، ضرية للمصداقية، ليس فقط مصداقية من تصدروا المشهد، ولكن اللعبة الديمقراطية برمتها في كف عفريت. لذا فالنخب مطالبة بأن تلتفت لعموم المواطنين عبر قرارات تمتد آثارها إلى الهامش الواسع الذي صار أصلا لا استثناء، فالتعليم والتطبيب من حق الجميع، والحد الأدنى من الدخل عبر التشغيل تكريم للإنسان، والأخذ بيد فئات كثيرة ضعيفة القدرات، مطالب لا يجب أن يختلف عليها اثنان، مهما كانت زاوية النظر للأمور، فلا مكان لكثير من الإديولوجيا، حيث يهدر الزمن والجهد، كما كان قد حصل من قبل، في زمن نحن فيه بحاجة للمسؤولية، والكفاءة، والإستحقاق والتضامن، ويظل النموذج التنموي الجديد إطارا للعمل بما يقدمه من استنتاجات، وما يعرضه من خلاصات، وما يتبناه من توصيات، وجبت ترجمتها إلى قرارات مصيرية جريئة تقطع مع التأويل السيء للتوصيات ولي أعناقها لخدمة المصالح الفئوية، وحالة الإنتظارية التي ميزت سنوات مضت في تفعيل مضامين الكثير من القوانين الخاصة بالتربية والتكوين والسياسة الرياضية والإستثمار… حتى أن بعض القطاعات صارت إنجازاتها شبة، رغم حجم ما يرصد لها من ميزانيات. لذا يبقى سؤال الإرادة الحقيقية في الإنجاز، والنجاعة في التنزيل، مطروحين حتى يتبين للناظر صدق من وعد.