في غمرة التجول بالمدينة العتيقة والتأمل والتوهان لدرجة النشوة السابحة في خيلاء المشاء بين أزقة طنجة وجدرانها وأبوابها وقصورها العامرة والخالية، يتراءى في ذهنك بريق معطر بالتاريخ والجمال والحنين إلى الماضي القريب والبعيد، وينثر في قلبك حبا ولهفة لمعرفة من عاش واستطاب تلك الشوارع، وفضول السماع لحكايا يرويها من كان هناك. وللطافة القدر ويسره، لا يزال من يعيش بين ظهرانينا من يروي تلك القصص بأجمل الألحان الكلامية، وأرقى التعبيرات اللفظية والسماعية، ما جعلنا لم نفكر كثيرا في شخصية تروي عطشنا ولهفتنا للعيش في ذلك العالم الخيالي. واتصلنا الإذاعي والشاعر الطنجي، عبد اللطيف بن يحيى، شخصية ترى فيها ذاكرة جماعية تمشي على قدميها، حاملة كما هائلا ومستغربا، كما يقول عن نفسه، من معلومات حول مدينة طنجة وروادها ومثقفيها وحاكميها وتاريخها الزاخر بالألوان. واتصل موقع "فبراير.كوم" بالاعلامي السابق بإذاعة طنجة، ورد بالود ودا مضاعفا تجلى في بساطته وتواضعه ولهفته التي لاحظنها للحديث معنا عن تاريخ طنجة وصباه وشبابه الذي عاشه بين أزقتها العتيقة. ولد عبد اللطيف بن يحيى سنة 1953، بمنزل مطل على البحر، بالزنقة الطويلة، في حي القصبة بين بابها وباب حاحا، ترعرع في أكثر من حي بالمدينة القديمة لحب أبيه لكل أحياء طنجة كما قال لنا، ثم بعد أن كان الوحيد بين إخوته الذي حالفه الحظ وتلقى تعليما نظاميا، بدأ مشواره المهني في الإعلام سنة 1980 بعد إكمال دراسته للعلوم السياسية بمدينة الرباط، سبق ذلك حبه للشعر وتدوينه لمجموعة من القصائد كأعاصير الحزن والفرح وديوان الأسوار. وفي لقائنا مع الإعلامي المغربي، حكى لنا عن ذكريات طفولته بطنجة الدولية قائلا، " كنا نقطن في حي القصبة بجوار بيت المرحوم عبد الله كنون وكيف كان موكب الخليفة السلطاني" التازي" بعربته المزركشة، متوجها لأداء صلاة الجمعة بجامع القصبة، واصطفاف جنود الجيش الدولي يمينا ويسارا لتنظيم هذا الطقس كل يوم جمعة. وأضاف، " مازلت أذكر هذا لأن الحي الذي كنا نقطنه، حي القصبة، جعلني أسترجع ببهاء هذه اللحظات، وأسترجع الدور الذي كانت تقوم به الجمعية الخيرية الاسلامية، عبر مساعدات للمحتاجين والفقراء الوافدين إلى برج القصبة ليتسلموا حصتهم من الخبز والجبن وقطع الشوكولاطة وفي المساء كانوا يستفيدون من شربة "الحريرة" والخبز، وكانت مساعدات طبية أيضا". وفي خضم الحديث عن هذه الذكريات وجه بن يحيى نداء للمسؤولين يقول فيه،" أن ندائه يتعلق بإعطاء قيمة أجلى للدكتور عبد اللطيف بنجلون المناضل الاتحادي الصلب، الذي تحمل مسؤولية عامل على المدينة بعد عبد الله كنون، وكان أول من استقبل الدكتور طه حسين في زيارة تاريخية لطنجة، في ميناء المدينة وتوجها لبيت العامل بمنطقة جبل كبير، في ضيافة بهية للكاتب المصري". وقال بن يحيى بهذا الصدد، إنه " يتمنى أن تعود ذاكرتنا لهذا الرجل لأنه صار نسيا منسيا كأن لم يكن، في حين أنه قدم خدمات جلية للمدينة". وسرد بن يحيى ذكرياته حول الطقوس المنظمة بالزاوية الصديقية الدرقاوية التي كان جده من أمه أحد مؤسسيها، واسترجع اللحظات البهية والجماهير الغفيرة تتوجه لتقديم الهدايا لضريح سيدي بوعراقية، والتي كانت تتحول لمظاهرات تندد بالاستعمار، والمطالبة بعودة الملك الراحل محمد الخامس الذي كان بالمنفى آنذاك. وحكى المتحدث نفسه عن التعايش الجميل والرائع حسب وصفه بالمدينة القديمة، ما بين مختلف الاجناس المشكلة لساكنة طنجة من إنجليز وإسبان وبرتغاليين وبلجكيين ويهود، وتساءل الحاكي حول كون طنجة هي المدينة الوحيدة غير المتوفرة على "ملاح"، ما يعنى حسب بن يحيى أن العنصر اليهودي كان مندمجا بشكل عميق بالمدينة. وأضاف حول هذا الاندماج أن ما رآه من ألفة وحسن جوار قائم بين اليهود وما بين المسلمين، يزكي طنجة كمدينة تعايش وسلام ومحبة. وحول التحولات التي بدأت تعرفها المدينة معية بمناطق أخرى بالمملكة، قال بن يحيى إن هجرة كبيرة إليها عرفتها مدينة طنجة، ويتذكر أنه بعيد الاستقلال بدأت تسمع لهجة جديدة بمدينة طنجة، ليست بتلك اللهجة الطنجية المتجذرة. وأشار إلى أن المدينة العتيقة بدأ حزام من المباني يصعد حولها، في شكل غير معهود على الساكنة والمدينة التي تتبع عمقا متوسطيا في طريقة البناء بها. وعاب بن يحيى في حواره مع موقع "فبراير.كوم" على مسؤولي تلك الحقبة، عدم اهتمامهم بالمناطق القروية وإحداث تنمية بشرية بها، كون ذلك سيساهم في عدم اضطرار سكان البوادي إلى الهجرة الحواضر وفي استقرارهم في أراضيهم ومنازلهم، فضلا عن استمرار انتاجيتهم والحد من مشاكل الهجرة.