قبل أن يتحول التسامح والتعايش بين الثقافات والأديان إلى شعارات ترفعها الدولة اليوم، كانت واقعا معاشا في عهد ولى، لم يكن يعلو فيه غير صوت المغرب العميق المتعدد والمتنوع والمركب. الكل كان يدافع عن التعدد المغربي بكل روافده بتلقائية وعفوية، ولم يكن المغاربة بحاجة لمن يملي عليهم دروس الإنصهار في بوثقة واحدة ولا لم لمن يدافع عن هويتهم التي تكفلت القرون تلو القرون ببنائها.
اليوم أصبح الحديث عن رافد من تلك الروافد بمثابة خروج عن محددات تلك الهوية، فتجد القوميين والإسلاميين معتدلين منهم ومتطرفين يصيحون ويحتجون بدعوى دفاعهم عن «تمغربيت»، فيستنكرون تارة على نشطاء تأسيس جمعية الصداقة اليهودية، ويبالغون في انتقاد عمل يرصد نوستالجيا مغاربة فرضت عليهم الهجرة إلى كيان يعاني أكثريتهم من التمييز داخله. وقبل ذلك رفعوا غير مارة شعار»هذا عار هذا... عار يهودي مستشار....!!
والحق يقال أن أولئك من القوميين أو من المحسوبين على مختلف تيارات «حراس المعبد الجدد»، وإن ليس في القنافد أملس، كما يحلو لأستاذ نكن له الإحترام هو عبد الكريم الأمراني أن يصفهم، هم في الحقيقة من يغرد خارج السرب. فالقوميون مستلبون من الشرق، ويدركون أن بلاد المغرب لم تكن في يوم من الأيام دولة عروبية باعتراف كبار منظري القومية العربية، بل لم يعرف يوما تشددا دينيا كما يحلو لأبواق التنظيم العالمي للإخوان المسلمين أو من يعتقدون اعتناق الإسلام النقي من سلفيين مستلبين من طرف عقيدة الغلو والتطرف.
هم مغاربة لكن عقولهم مع مشرق أنتج بالأمس استبداد قومجيي البعث العراقي والسوري وتسلط القذافي وجمهورية عبد الناصر والقذافي، واليوم ينتج استبدادا دينيا بتمويل أنظمة تلعب بالنار لمواجهة شيعة فارس وإن تدين أهلها بنفس دين محمد.
لا يعرف بلاد المغرب غير المغاربة الأقحاح ممن عاشوا في البوادي والأرياف، ففيها وإلى اليوم يمكن معرفة حقيقة هذا البلد بلغاته وثقافاته التي لا تعرف لا الغلو ولا التطرف ولا البغض ولا الكراهية، وهناك عاش المسلم وغير المسلم اليهودي بالخصوص دون أن يرفع طرف سلاح الإنتماء الديني أو اللغوي ولا العرقي ليتبجح بوطنيته ولا ليساوم بها غيره، فالكل أدرك أن الوطنية لا تعني سوى إرادة العيش المشترك كآدميين في احترام تام للعقائد واللغات والثقافات. أما اليوم، فمن لا يعرف ثقافة بلده، يتحرك بوعي وبلا وعي من أجل محاربة حقيقة يجهلها، ومنها حقيقة أن اليهود المغاربة هم من أهم وأقدم التشكيلات الإجتماعية-المستقرة بالمغرب بعد السكان الأصليين الأمازيغ، سواء منهم - التوشاييم أو المغوارشيم، وفي كل مركز حضري أو مدينة تجد ملاحا يقطنه أولئك المغاربة ومنذ القرن الثالث قبل الميلاد. قبل تنغير وغيرها من المدن الكبرى كالدار البيضاء وسلا ومكناس والصويرة، فإن أولئك كانت لهم مملكة في إفران الأطلس الصغير وسموها «أورشليم الصغيرة» وهذا هو الإسم القديم لإفران وكانت هذه المدينة عاصمة أول مملكة يهودية بالمغرب .
ولا يزال الجنوب المغرب يزخر بتراث مادي ولامادي مغربي يهودي غني وعريق موغل في القدم من قبل قبور ما قبل الاسلام وأضرحة أنبياء الله اليهود وقبور صلحاء بني اسرائيل، فضلا عن نفائس ودخائر الكتب التي خلفها الاحبار المغاربة اليهود، لكن كل ذلك مهدد الآن بالإندثار وإن نهبت كثير من دور العبادة اليهودية، ومقابر عديدة طالها الإهمال منها مقبرة بقرية تكديرة بأقا ومقبرة قرية الزاويت، ومقبرة تمنارت، ناهيك عن أضرحة أنباء في تكموت وغيرها. لا أحد يمكن أن يزايد على مغربية معتنقي اليهودية بالمغرب، فكثيرت منهم لا يزال يعيش في المغرب وبرعت أسماء كثيرة منهم في مختلف المجالات كادمون عمران المليح وسيون أسيدون وشمعون ليفي وغيرهم، وحتى من هاجر منهم إلى اسرائيل، فإنهم ينتظرون العودة لبلاد يحتفظ لهم بجنسيته، وكثير منهم ممن عانوا التمييز في دولة ظاهرها ديني وباطنها استبدادي عنصري تنتصر للجنس الأبيض الأروبي وتحتقر يهود الشرق والمغرب وافريقيا، فإن أولئك قد يعودون لوطنهم من جديد، حين يحسون أنهم سيكونون مواطنين يحضون بكل حقوق المواطنة.... ولذلك لا يسعنا إلا أن نقول لهم مرحبا بكم في بلادكم «ماروك جيغزاليم».