قبل حوالي سنتين من اليوم توفي الشاب كمال العماري إثر تدخل أمني ضد مسيرة لحركة 20 فبراير في مدينة آسفي. لم يكن فتح تحقيق قضائي في الموضوع بالشيء الجديد حينها، فقد أضحى فتح التحقيقات القضائية أو البرلمانية وإهمالها سلوكا معتادا من قبل السلطة كلما شب حريق سياسي اجتماعي هنا أو هناك. بالمقابل كانت مبادرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالتحقيق في هذه الحادثة، جديرة بالاهتمام لسببين على الأقل: فمن جهة كان هذا التحقيق اختبارا جديا لفعالية "الآلية الوطنية" لحماية حقوق الإنسان، في سياق انعدام الثقة بين حركة 20 فبراير التي كان ينتمي إليها الفقيد ومؤسسات الدولة الأمنية المتهمة بالمسؤولية عن مقتله. ومن جهة ثانية، كان تحويل المجلس الاستشاري الى مجلس وطني لحقوق الإنسان (وهو مطلب حقوقي قديم) تأثير إيجابي على موقف المغرب في قضية الصحراء. ففي قرار مجلس الأمن الدولي حول هذا النزاع لسنة 2011 (رقم 1979) يقول مجلس الأمن إنه "يرحب بإنشاء مجلس وطني لحقوق الإنسان في المغرب وبالعنصر المقترح في ما يتعلق بالصحراء الغربية". ولهذا موقف له دلالة قوية، أشهر قليلة بعد مأساة كديم إيزيك، وما تلاها من تركيز الجزائر وجبهة البوليزاريو على مطلب إنشاء آلية دولية لحماية حقوق الإنسان في الصحراء. فماذا كانت نتيجة هذا الاختبار لفعالية "الآلية الوطنية لحقوق الإنسان"؟
إقناع مجلس الأمن وإقناع أسرة كمال العماري
في يونيو 2011 أنهى المجلس الوطني لحقوق الإنسان تقريره حول مقتل كمال العماري، وبعث نسخا منه إلى الوزير الأول آنذاك ووزراء العدل والداخلية والصحة. بعد أيام تلقى المجلس جوابا من وزير العدل يخبر فيه أنه أحال التقرير على قاضي التحقيق المكلف بالملف، لكن دون أن يظهر له أي تأثير على المسار القضائي لهذه الجناية إلى يوم الناس هذا. رغم أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان وجه في ما بعد رسالة تذكيرية لوزير العدل، إلا أن الإجراء الوحيد الذي اتخذته السلطات الأمنية، ارتباطا بقضية مقتل العماري، تمثل في نقل رئيس الضابطة القضائية بآسفي إلى مدينة مراكش دون احتفاظه على صلاحية رئاسة هذا الجهاز بالمدينة الحمراءḷ بعدها بأشهر شرعت المحكمة العسكرية بالرباط في محاكمة المتهمين باغتيال عسكريين خلال تفكيك مخيم كديم إيزيك، في ظل إجماع عدد من الجمعيات الحقوقية الوطنية والدولية على لا عدالة متابعة مدنيين أمام قضاء عسكري ينتفي فيه حق المتهمين في استئناف الأحكام الصادرة ضدهم، أدنى شروط المحاكمة العادلة. بعد صدور الأحكام العسكرية النافذة في حق المدانين، جاء الديوان الملكي ليصدر بلاغا يشيد بتقرير أصدره المجلس الوطني لحقوق الإنسان يقترح وقف متابعة المدنيين أمام القضاء العسكريḷ يعني أن جدوى الآلية الوطنية لحماية حقوق الإنسان، التي أشادت الأممالمتحدة بإنشائها، لا تعدو إحالة التقارير على الحكومة والقضاء في حالة انتهاك جسيم لحق مواطن في الحياة، أو تلقي شهادة تقدير من الملك بخصوص "رأي" حول محاكمة عسكرية، دون أن يكون لهذه الشهادة أي تأُثير على جوهر الموضوع، أي محاكمة مدنيين صحراويين وغيرهم أمام قضاء عسكري. إذا كان هذا منتهى تأثير "الآلية الوطنية" لحقوق الإنسان على أرض الواقع، فلماذا الدهشة لسعي الجزائر والبوليزاريو إقناع مجلس الأمن الدولي بضرورة آلية دولية لحماية حقوق الإنسان في الصحراء من خلال توسيع صلاحيات المينورسو لتشمل هذا الجانب؟ بغض النظر عن نتيجة المعركة الديبلوماسية ومدة صلاحيتها (سنة واحدة فقط إلى غاية أبريل 2014)، تبدو واضحة مسؤولية الدولة المغربية في تهديد سيادتها الإدارية على الإقليم المتنازع عليه. وهذه السيادة الإدارية، للتذكير مكسب انتزع غاليا بدماء الآلاف من الضحايا العسكريين والمدنيين منذ معارك جيش التحرير الأولى ضد الاستعمار الفرنسي والاسباني. ليس هناك ما يهدد هذا المكسب اليوم أكثر من التردد وعدم الجدية في اختيار حاسم ونهائي باحترام حقوق الإنسان. هذا الاختيار يمكن أن يبدأ بإعطاء مضمون فعلي لما يصدر عن الآلية الوطنية لحماية حقوق الانسان، في متابعاتها للانتهاكات المفترضة أو آرائها المتعلقة بتفعيل الدستور من خلال القوانين التنظيمية المرتقبة أو ملاءمة قوانين قائمة مع مبادئ حقوق الإنسان كما نص عليها الدستور الجديد. وإلا فما معنى أن يظل المسؤولون المفترضون عن وفاة كمال العماري أحرارا طلقاء، بعد أن فتح تحقيق قضائي معزز بتقرير للمجلس الوطني لحقوق الإنسان؟ ما معنى أن لا تعاد محاكمة معتقلي كديم إيزيك أمام محكمة عسكرية، وقد قال المجلس الوطني لحقوق الإنسان كلمته في شروط عدالة المحاكمة العسكرية؟ حين يتعلق الأمر بحقوق ضحايا ما قبل 1999 يساق مبررالتوافق السياسي لتبرير الإفلات من العقاب بالنسبة للمسؤولين عن اختفاء المهدي بنبركة والحسين المانوزي وعبد اللطيف زروال وغيرهم كثير. فما الذي يبرر اليوم إفلات المسؤولين عن مقتل العماري من العقاب؟ ما الذي يمنع القضاء أو الإدارة، أو هما معا، من متابعة خلاصات تقرير رسمي للجنة تقصي الحقائق البرلمانية حول كديم إيزيك يسائل الحكامة الأمنية في تدبير الحدث؟ الحمد لله أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان ساهم – على الأقل – في الوقوف ضد مشروع قانون الضمانات الأساسية الممنوحة للعسكريين، إلى جانب الجمعيات الحقوقية وبعض نواب المعارضة. وهو للتذكير، مشروع قانون كان سيمنح حصانة تجعل العسكر فوق أية مساءلة عندما يؤدون مهاما داخل أرض الوطن. ولنتخيل فقط كيف كان سيكون موقف المغرب في ترافعه ضد توسيع صلاحيات المينورسو في الصحراء وعسكره محصنون من أية مساءلةḷ
خطة بنموسى وأزمة التمثيلية في الصحراء
تقرير لجنة تقصي الحقائق النيابية حول مأساة كديم إيزيك تناول، في تشخيصه وخلاصاته، الجانب الآخر الأكثر أهمية في موضوع حقوق الإنسان بالمنطقة وهو موضوع تدبير الثروات وحقوق السكان الاقتصادية والاجتماعية. لذلك تبدو خطة المجلس الاقتصادي والاجتماعي، المرتقب صدورها في أكتوبر المقبل حول النموذج التنموي في الصحراء، جديرة بالاهتمام. فالوثائق الأولية لهذه الخطة تؤكد بصراحة ما تضمنه التقرير البرلماني وما يعرفه الجميع حول سيادة الريع غير المنتج لا سياسيا ولا اقتصاديا في المنطقة. إذا كانت الخطة التنموية المرتقبة على القدر اللازم من الجدية والعدالة فستكون فرصة تاريخية للإقناع بجدوى الحكم الذاتي، مقارنة مع انفصال مجهول المصير تحت رعاية جيران غير مثاليين في واقعهم الديمقراطي. لكن أجرأتها ستطرح من جديد أزمة التمثيلية في المنطقة، وهي الأزمة التي اعترف بها الملك نفسه حين تحدث في خطابي المسيرة الخضراء لسنتي 2009 و2010 عن ضرورة مراجعة وضع الكوركاس. ففي خطاب المسيرة لسنة 2009 تحدث الملك عن: "إعادة هيكلة المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، في أفق انتهاء ولايته، من خلال إعادة النظر في تركيبته، وتقوية تمثيليته، بانفتاحه على نخب جديدة، ذات كفاءة وغيرة وطنية، وتأهيل وملاءمة هياكله، وطرق تسييره مع التحديات الجديدة، والرفع من نجاعته، في التعبئة للدفاع عن مغربية الصحراء وتنميتها." وفي خطاب السنة الموالية بمناسبة المسيرة الخضراء دائما، تحدث الملك مجددا وبالتفصيل عن: "إعادة هيكلة المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، حيث سنتولى، قريبا إن شاء الله، إصدار ظهير شريف للمجلس الجديد." متحدثا عن "تنصيبه على أساس إصلاحات جوهرية" من بينها "دمقرطة تركيبته"، و"اعتماد حكامة جيدة، من شأنها ضمان عقلنة هياكله وطرق تسييره"، و"توسيع صلاحياته لتشمل، على وجه الخصوص، المهام التمثيلية والتنموية، والتعبئة الوطنية والدولية، والعمل على تحقيق المصالحة بين كافة أبناء الصحراء المغربية." مضت أكثر من 4 سنوات على خطاب 2009 دون أن يشرع في حل مشكلة التمثيلية بإعادة هيكلة المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، كما أعلن الخطاب الملكي. لا شك أن هناك أسبابا موضوعية حالت دون ذلك، خاصة بعد منعطف كديم إيزيك وما تلاه من تداعيات سياسية محلية ووطنية. لذلك يبدو واضحا اليوم أن حل أزمة التمثيلية في الصحراء، إذا كانت إرادة الدولة جدية في هذا الصدد، لن تتيسر دون مشاركة أوسع النخب الصحراوية بغض النظر عن موقعها في نظام الريع، أو مكانتها ضمن نظام التوازنات القبلية.
مسؤولية العثماني ومسؤولية الفاسي الفهري
حل إشكال التمثيلية في الصحراء ليس في الواقع سوى جزء من إشكالية تفعيل الدستور بما يضمن فصل السلط وتوازنها في الواقع والممارسة، خاصة ما يتعلق بصلاحيات المسؤولين سياسيا في البرلمان والحكومة مقابل صلاحيات المسؤولين إداريا فقط مهما سمت وظائفهم. وهذا جوهر مشكل الانتقال الديمقراطي كما وقف على ذلك حزب الاتحاد الاشتراكي في تقريره التقييمي لانتخابات 2007 التشريعية، وأرضية مؤتمره الثامن الذي توج برفع مطلب دستور يضمن "الملكية البرلمانية". في هذا السياق لا يعقل أن يرفع رهان دمقرطة تمثيلية سكان منطقة من مناطق البلاد (الصحراء في هذه الحالة)، دون السير لأبعد مدى في دمقرطة اتخاذ القرار السياسي والديبلوماسي في تدبير الدولة لملف الصحراء. إذا كان دستور 2011 حمل المؤسسة الملكية جانبا هاما من مسؤولية تدبير السياسة الخارجية للبلاد، فإنه حمل معها الحكومة جانبا لا يقل أهمية من المسؤولية عن هذا المجال الحيوي. لذلك لا يفهم، مثلا، غياب وزير الخارجية والتعاون عن الوفد الديبلوماسي الذي زار الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد أزمة صلاحيات المينورسو، ولا يفهم أن "يترأس" الطيب الفاسي الفهري لوفد ديبلوماسي "يشارك" فيه وزير الخارجية والتعاون (كما كتبت وكالة الأنباء الرسمية). علما أن العثماني مسؤول سياسيا أمام الرأي العام والبرلمان والحكومة والملك، بينما الفاسي الفهري مجرد موظف لا يخصه الدستور بأية مسؤولية سياسية مهما علت درجة وظيفته. ولعله من بؤس السياسة كما أضحى يمارسها البعض أن ينتقد زعماء أحزاب رئيس الحكومة ل"تفريطه في صلاحياته"، ويصمتوا عن "إفراط" موظفين سامين في ممارسة صلاحيات يكفلها الدستور للوزراء.