ابتليت السياسة في المغرب هذه الأيام بداء خطير يشبه داء الازدواجية، حيث يتخذ الكلام معنى انطلاقا من قائله وليس من مضمونه وقصده وسياقه. مناسبة هذا القول هي تداعيات لفظ “مداويخ” الذي نعث به بوسعيد الجهات التي تقف وراء حملة مقاطعة منتوجات ثلاثة شركات في البرلمان. بسرعة تم تضخيم الأمر وتأويله وتحريفه عن سياقه وتوسيع المعنيين به بينما الرجوع إلى تصريح الوزير حرفيا يبين أنه لم يقصد نهائيا المعنى المتداول، عن سبق إصرار من طرف البعض لأهداف وخلفيات يعرفها هو وحده، والذي لقي صدى عند فئات وشرائح من الناس لم تكلف نفسها عناء الرجوع إلى التصريح كاملا بدون اجتزاء. لفظ “المداويخ” ليس إبداعا “بوسعيديا” ولكنه اختراع “بنكيراني” أطلقه كنعث لمناضلين من شبيبة حزبه لتصنيفهم عن بقية شباب الحزب ولإيصال رسالة تبرؤ مما يخطونه على صفحات حساباتهم، الحقيقية والوهمية، ويؤدي الحزب تبعاته السياسية. في تلك المرحلة لم يثر هذا التعبير كل هذه الضجة، سواء عند المغاربة أو حتى عند مناضلي العدالة والتنمية الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها ضد بوسعيد اليوم. ومنذ ذلك اليوم دخل هذا التعبير في القاموس السياسي .. وحُمل كلام بنكيران على المحمل الحسن عكس ما حدث مع بوسعيد. وصدق الشاعر حين قال. وعين الرضى عن كل عيب كليلة….وعين السخط تبدي المساوئ. الحملة ضد تصريح بوسعيد ليس باعثها دفاع عن المغاربة وإلا لكان لزاما أن تقوم نفس الحملة ضد بنكيران لما استعمل لفظ “المداويخ” ضد مواطنين مغاربة، وليس هدفها محاسبة بوسعيد وإلا لكان الأولى أن يعترض على اللفظ نواب الأمة الموجودين في القبة حينها لو رأوا فيه تنقيصا للمغاربة، أو كان الأولى أن يعتذر عن ذلك رئيس الحكومة باعتباره رئيسا مباشرا لوزراء حكومته وفق ما ينص عليه الدستور في المغرب لأنه لم يبق مجرد وزير أول منسق للعمل الحكومي.. ولكن الهدف من هذه الحملة سد الطريق على كل من يريد اقتباس القاموس الخاص ببنكيران في ما يشبه الدفاع عن ملكية خاصة لأن هناك تخوف من ظهور فاعل سياسي يستنسخ النموذج البنكيراني الذي يرى فيه قادة الحملة ضد بوسعيد نقطة قوة العدالة والتنمية ضاربين عرض الحائط القيم الدينية والأخلاقيات السياسية التي تستلزم حدا أدنى من الصدق وحسن الظن والنزاهة في التعامل مع تصريح الوزير ووضعه في سياقه دون تهوين أو تهويل، ويمكن انتقاده والمطالبة بتوضيح من الوزير عما يقصده بالمداويخ ومن يقصد بالضبط؟ وهل يعني عامة الشعب؟ أم المقاطعين؟وقد قال بالبرلمان (شي مداويخ) وهذا يعني من يقودون … أم من يقف وراء هذه الحملة؟ وهؤلاء هم من تحدث عنهم رئيس الحكومة فوصفهم ب”المجهولين”. تعددت الألفاظ والمعنى واحد. فلماذا تحركت الكتائب ضد بوسعيد وبلعت لسانها ضد العثماني، أو هو العمل بمبدأ “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”؟ ليس من حق أي كان تخوين الشعب أو التشكيك في وطنيته أو منعه من ممارسة حق كفله له الدستور، سواء كان اعتراضا أو مقاطعة أو تعبيرا عن رأي أو احتجاجا أو تظاهرا. بل إن الدستور منح للمواطنين، في إطار الديمقراطية التشاركية، الحق في تقديم الملتمسات والعرائض.. وليس من حق أحد التشكيك في نيات المقاطعين، ومنهم فئة واسعة تتجاوب مع هذه المقاطعة لأنها متضررة فعلا من جشع بعض المقاولات، ولكن يلزم كل واحد بذل جهد ذهني لفهم بعض التفاصيل الضرورية لتجنب توظيفه سياسويا في أجندات لا تخدم على المدى المتوسط والبعيد مصالحه. ولفهم هذه التفاصيل يلزم الإجابة عن أسئلة من قبيل. لماذا اختيار هذا التوقيت؟ ولماذا اختيار هذه المواد دون غيرها؟ ولماذا هذه المقاولات دون غيرها؟ ومن المستفيد من ذلك؟ وما هي تداعيات هذه الحملة المحتملة، بشكل مباشر وغير مباشر، على البلاد والاقتصاد وسمعة المغرب والمواطنين؟ المثال الثاني على داء الازدواجية هو هذه الانتقائية المتعمدة في التعامل مع الفاعلين. نتذكر يوم كان بنكيران رئيس حكومة في مهرجان في مدينة “أكوراي” الصغيرة بضواحي مكناس حيث نفى مسؤولية حكومته عن الزيادة الاخيرة في سعر الحليب “والله ما أنا للي زدت في ثمن الحليب”. ليردف مباشرة بعد ذلك متسائلا أمام الحضور: “واش ما بقيتوش تعرفو تصايبو الرايب؟ صايبوه فديوركوم وتهناو”. وأتبع كلامه هذا بدعوة صريحة لمقاطعة منتوجات الشركة، قائلا إنه شاهد صباح اليوم فقط شريطا بثه شبان مغاربة عبر موقع “يوتوب”، يدعون من خلاله الى مقاطعة “دانون”، مضيفا: “أنا أول المستجيبين لهذه الدعوة، ولن أذوقه خلال عشرة أيام”. في ذلك اليوم لم يتحدث البيجيديون، الموجودون في الحكومة، بخطورة هذا التصريح وشعبويته وانعكاسه السلبي على مناخ الاستثمار وثقة المستثمرين. قد يتفهم الإنسان مقاطعة منتوجات كمالية، مثل ماء معدني، وخاصة في بلد له من المياه الطبيعية الكثير..وقد يتفهم المرء مقاطعة منتوجات المحروقات الضد شركة لدوافع معينة طالما أنها منتوج لا يعني الشرائح الواسعة من المغاربة، ولكن كيف يمكن تفهم حملة دعائية ضد منتوج لا تخلو منه مائدة المغاربة الفقراء قبل الأغنياء؟ هنا تظهر الأجندة السياسية التي تهدف إلى دغدغة المشاعر واستغلال الموجة دون التفكير في العواقب. نحن مقبلون على رمضان، وهو شهر يرتفع فيه استهلاك الحليب من قبل الفئات الفقيرة قبل غيرها لأن للفئات الأخرى أنواع الحليب الأخرى التي تستهلكها بأثمان أخرى. فكيف سيتم التعامل مع الأمر الواقع في حالة توقف الفاعل الأساسي عن الإنتاج في هذا الشهر الفضيل، وهو بالمناسبة الفاعل الذي يغطي نصف حاجيات السوق الوطنية؟ وفي ظل عجز باقي الفاعلين عن تغطية هذه النسبة بهذه السرعة بسبب ما يتطلب ذلك من إمكانيات وتجربة وراس مال؟ وإذا كان السبب هو الأسعار فلماذا لا تعمم المقاطعة طالما أن سعر مادة الحليب متشابه بين كل الشركات الفاعلة في مجال توزيع الحليب؟ كيف يمكن تصور معاناة المواطن وهو يبحث عن نصف لتر من الحليب في اليوم لتعجيل إفطاره في ظل نقص مادة الحليب في السوق؟ سيصبح المواطن حينها في قبضة المضاربين وستنتعش السوق السوداء وسيصبح الحصول على نصف لتر رهينا بالوقوف ساعات في طابور الانتظار كما كان يحدث منذ عقدين من الزمن حين كان قبول صاحب الدكان منح المواطن نصف لتر من الحليب مرتبطا بأن تشتري منه سلعا أخرى إجباريا. استهداف سنطرال، كشركة وكمنتوج، لن يضرها لأنها مطلوبة في السوق في دول أخرى، وهي شركة كبرى ذات تجربة وقدرة على امتصاص الخسائر في حدود معينة، ولكن إذا تجاوزتها ستفكر في بدائل أخرى، أبسطها نقل استثماراتها إلى بلدان أخرى ترغب في خدماتها.. ولكن المتضرر الأكبر هو بسطاء الشعب الذين سيقل العرض حينها بما يواكبه من معاناة في الحصول على المنتوج الأساسي لهم، وخاصة في شهر رمضان، والخضوع لرغبات المضاربة في السعر..ناهيك عن الضرر المباشر الذي سيلحق بما يقارب 120 ألف فلاح و6000 عامل وآلاف الأسر التي يعولها هؤلاء. يقول المثل المغربي “مائة تخميمة ولا ضربة المقص” والمعني بهذه القولة هنا هو بسطاء المغاربة المتضررين من المآلات الممكنة لاستمرار مقاطعة مواد أساسية لأن معاناتهم ستصبح أكثر وضررهم أقوى..بينما المستفيد هم جهات منتفعة من هذه الحملة واستمرارها وتوسع تأثيرها لخدمة أهداف وأجندات لا تخدم نهائيا إلى مصالحهم وجيوبهم ولو على حساب هذا الشعب الذي تسقط فئات منه ضحية سياسة الكيل بمكيالين وداء الازدواجية الذي ينقله إليهم بعض “المداويخ” بالتعبير “البنكيراني” وليس “البوسعيدي” حتى تفهم الكلام بمعناها الإيجابي وليس السلبي.