أو الأمازيغية الجسم المضاد l'anticorps لنطرح السؤال الذي يبدو أنه ظل مغيبا في "الربرتوار" الثقافي والسياسي الذي أنتجه المغاربة وأثر في فكرهم وتمثلاتهم ووعيهم الهوياتي والوطني: لماذا سمي المغرب مغربا؟ الجواب البسيط هو أنه يقع في غرب بلدان الشرق الإسلامي والعربي، فسمي بالمغرب أو المغرب الأقصى. لكن هذه التسمية الشمسية التي تعتمد التقابل التقليدي شرق غرب، ألا تتضمن وتحيل على التقابل الفوتولوجي في بعده ومعناه الاختلافي والثقافي والفكري؟ والفوتولوجي هنا بعمقه الاصطلاحي والمفهومي الذي نجد أسسه في فكر الاختلاف وكتابات جاك دريدا تحديدا، وفي كتابات عبد الكبير الخطيبي وفكر التعدد وبوادره ومسوغاته في عدة مجالات معرفية أخرى خاصة تاريخ الفن والأنثربولوجيا والآداب... فقد تعددت أوصاف المغرب وتسمياته في سجل القواد والخلفاء العرب ومنها "بلاد البربر" الأكثر شهرة، وفي تاريخ وسجل مواطنيه من الأمازيغ ومنها امراكش، لأنه لم يكن مجرد أرض خلاء، بل فضاء وجود تاريخي واجتماعي، ومورد سبي واغتناء، وموضوع صراع حول الاحتلال والنفوذ والسلطة . لكن قبل وبعد كل ذلك، يظل المغرب مجالا مختلفا فتسمية المغرب في حد ذاتها تعيين شمسي وتحديد جغرافي، صار تمييزا مجاليا وترابيا وهوية اجتماعية وثقافية مغايرة. يبدو من المثير للتساؤل ملاحظة كيف استطاع المغرب وبقية مجتمعات شمال إفريقيا الحفاظ على انتمائها المجالي وهويتها الافريقية الأمازيغية وملمحها الأوروبي والمتوسطي رغم كل الحملات العسكرية والسياسية والثقافية التي كانوا عرضة لها على امتداد مئات السنوات، والتي اعتمدت كل أساليب الهيمنة والإخضاع السياسي والتشريق الثقافي؟ فأين تتجلى أمازيغية المغرب وما دورها في الحفاظ عليه؟ يمكن أن نعيد صياغة عنوان هذا المقال بالقول: لو لا الأمازيغية لفقد المغرب هويته، فأمازيغية المغرب، سواء كمجال ترابي وانتماء قاري أو كمعطى تاريخي وواقع اجتماعي وثقافي، هي التي استطاعت أن تشكل تميزه الإنسي والثقافي والديني، وتحدد هويته الوطنية العميقة عبر التاريخ. عندما نقول هويته العميقة فهذا في مقابل الهوية السطحية، أي تلك التي تسجل في كنانيش الحالة المدنية وبطائق التعريف، أو التي تسجل في ديباجات الدساتير وألواح التشريع والتشوير، وتطلق على الأشخاص والدول والاتحادات والوكالات والشوارع والقاعات... والتي لا تتعدى مستوى الخطاب السياسي والإيديولوجي بعد أن يطالها التحريف والتحوير نتيجة أوهام الذات والمجتمع وصراعات الهيمنة والسلطة. على عكس الهوية المعلنة أو الملصقة l'identité affichée، فالهوية العميقة إطار للوجود الاجتماعي والممارسة الحياتية ونظرة إلى الذات والآخر، وانتماء أرضي وتصاد أفقي مع المجال، مما يمنحها القدرة على الاستمرار وتوليف متغيرات وعناصر الوجود الدخيلة وتلطيفها. وبهذا المعنى، فالأمازيغية كمقوم هوياتي، ثقافي ووجودي، تشكل بالنسبة للكيان المغربي الجسم المضاد anticorps ومصدر مناعته الذاتية. لنأخذ كمثال موضوع الدين وإسلام المغاربة. فلا حظوا كيف استطاع المجال الأمازيغي عبر التاريخ أن يكيف الممارسة الدينية الإسلامية مع حاجياته وخصائصه ومكوناته الطبيعية والبشرية والثقافية، فطبع بإطاره الهوياتي وطابعه الإنسي إسلام المغاربة؟ فهذا الإطار الهوياتي ذو العمق الإنسي والثقافي هو الذي أضفى على إسلام المغاربة طابع الانفتاح والتسامح والليونة العقدية، واستدمجه داخل بنياته الرمزية والجمالية وداخل فصول حياة الأفراد والمجتمع. وهذا المقوم الهوياتي والإنسي هو الذي تحول إلى جسم مضاد داخل الجسد الاجتماعي والمتخيل الرمزي يقاوم كل تشدد في الفكر والممارسة أو انغلاق في الإيمان والعقيدة، وما لبث يغذي ويجدد مناعته أمام تأثير التيارات والأفكار الدينية المنغلقة، خاصة التكفيرية القادمة من الشرق. فالمؤكد أن هوية الشعوب والمجتمعات هي التي تشكل كيانها وعمق وجودها الاجتماعي والثقافي والسياسي، ومقوم مناعتها واستمرارها واختلافها. ولو لا الأمازيغية، الهوية العميقة للمغرب والمغاربة، لاندثرت مغربيتهم جميعا.