أتذك، ويتذكر معي لا شك، جيالي من مهندسين وحرفيين وموظفين وقضاة وأساتذة وباحثين وفنانين وتجار وفلاحين...ومختلف شرائح المجتمع المغربي كيف كنا وكان آباؤنا وأمهاتنا وجيراننا ومدرسونا ومدراؤنا ومفتشونا...، قبل بضع سنوات، يستقبلون موعد الدخول المدرسي بشعور واهتمام وإقدام منقطع النظير، حيث كان يكفينا قلم حبر جاف وورقة دفتر للإحساس بسعادة التمدرس والالتحاق بالمؤسسات وتسجيل الحاجيات واستعمالات الزمن التي تعلق على زجاج نوافذ إحدى الحجرات، وتعرف الأساتذة والمقررات وضوابط حرمة المؤسسة، كما كانت بعض الدراهم تكفي أسرنا لتغطية مصاريف تسجيلنا واقتراض الكتب من خزانة الإعداديان والثانويات، لينطلق الجميع في موكب الموسم الدراسي الذي تتكافأ فيه فرص الجميع، ووحده الاجتهاد والإحساس بالواجب يمنحان التعليم والتعلم معناه الحقيقي ويخلقان في الأخير التمييز الصحيح بين الحسن والضعيف وبين الناجح والساقط. وخلال السنوات الأخيرة، يتابع جل المواطنين والمواطنات الفاطنين، لا شك، كيف صار موعد الدخول المدرسي يقترن لدى الأسر، خاصة في المدن الكبرى، بشعور الرعب الذي يتولد عن التكاليف المرتفعة لتمدرس الأبناء، وغلاء الحاجيات واللوازم ورسوم التسجيل، إضافة إلى المقابل والأداء الشهري بالتعليم الخصوصي للكثير من العائلات، وخاصة من الموظفين ورجال ونساء التعليم، مما يجعل من هذا الموعد السنوي لحظة تشنج اجتماعي واستنزاف مادي وضغط نفسي بالنسبة للآباء والأمهات، وبداية موسم فعلي لاختلال الفرص والتمييز الاجتماعي وغياب المعنى الحقيقي للمدرسة كأرقى مؤسسة ديموقراطية في المجتمعات الحديثة. ولا شك أن أسرة التعليم أو جلها، تعتبر أكثر الفئات الاجتماعية إحساسا بقساوة الدخول المدرسي في حلته التي اجتاحت فضاء المجتمع، حيث يعود هذا الإحساس والوضع الحرج في الحقيقة إلى كون رجال ونساء التعليم هم القاطرة الفعلية والعصب الرئيسي للمدرسة المغربية ومنظومة التربية والتكوين، لكنهم أكثر فئات المجتمع دلالة وحيرة من حيث عدم ثقتهم في المدرسة العمومية، أي في وزارتهم وفي مؤسساتهم وأنفسهم، ومن حيث تأثرهم بتحولات المجتمع وسياسة الدولة في هذا الشأن. إضافة إلى أنهم الفئة التي تقع بين الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، حيث رغم أنها تحمل رغبات وتطلعات الثانية فهي تعيش أوضاع مادية واجتماعية أقرب إلى الأولى، وهذا مصدر مآسيها وأشكال الاستنزاف المادي والنفسي والصحي التي صارت تطبع وضعها السوسيو اقتصادي في المجتمع. انطلاقا من عناصر هذه المعاينة والتحولات التي صارت تتخذ طابع الظاهرة الاجتماعية، تطرح أسئلة ملحة حول هذا الوضع الخطير الذي يكفي للاستدلال عن الأزمة التي وصل إليها التعليم في المغرب وعلى أن المغاربة في واقع الأمر لا يتوفرون على المدرسة التي تليق بهم ولا النخب والقوى والساسة الذين يستحقونهم، ومنها: الموظفون بصفة عامة، وموظفي التعليم في المغرب من أساتذة ومديرين ومفتشين وأعوان...يدفعون من دخلهم الشهري الهزيل ضريبة على الدخل تعتبر أعلى IGR في العالم تقدر بحوالي 30 في المائة. وفي أدبيات المواطنة والدولة الحديثة فالمواطنون يؤدون ضرائبهم في مقابل الاستفادة من الخدمات العمومية للدولة وعلى رأسها التعليم والصحة والآمن. فماذا تقدم الدولة للمواطنين المغاربة دافعي الضرائب وخاصة للموظفين ورجال ونساء التعليم إن لم يكونوا يستفيدون حتى من تعليم محترم وذي جودة وفي ظروف سليمة لأبنائهم؟ رجال ونساء التعليم يدرسون بالمدارس العمومية، والعديد منهم يقترض أو يستنزف ميزانيته الضعيفة ليؤدي مصاريف تدريس أبناءه وليتجاوز محنة الرعب المدرسي وكل تبعاتها الاجتماعية والنفسية والمهنية! فكيف يمكن أن نطالب هؤلاء بالجودة وحسن الأداء التربوي وهم الضحية الأولى، على المستوى الشخصي والاجتماعي والمادي والمعنوي، لأزمة قطاعهم؟ الحزب الذي يترأس الحكومة الحالية طالما تغنى ووعد تابعيه وناخبيه بالحق في تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وبالعمل على رد الاعتبار للمدرسة...وهو اليوم، يشرف بشكل جدي على أخطر مرحلة في مسار إضعاف المدرسة العمومية وتأزيم القدرة الشرائية للمواطنين ولرجال ونساء التعليم بشكل خاص، والتضييق على حقوقهم كممارسة حق الإضراب للاحتجاج على أوضاعهم بما في ذلك الحرمان من مدرسة تستحقهم ويستحقونها، واستغلالهم الاقتصادي عبر عدة إجراءات ومنها الرفع من سن التقاعد . هذه صورة تختزل حجم الهوة والتشظي الذي يعيشه المجتمع ونخبته المتعلمة وقطاعه التعليمي الذي يمثل في الدول والمجتمعات المتقدمة رأسمالها الحقيقي، كما تختزل عطالة "الماكينا" التي تنتج النخب ومدبري الشأن السياسي والشأن العام الوطني، حيث صارت الحلول السهلة وجيوب المواطنين الملجأ الذي تجرأ عليه الحكومة والدولة أمام اختلال موازين الحياة السياسية وضعف الأحزاب والنقابات، وعطالة العقل الوطني القادر على التفكير الصعب وإبداع وسن الحلول الكبرى.