- حينما يذكر الإنسان كلمة الغرب تتبادر إلى ذهنه عدة أمور، منها تتشكل صورة هذا الغرب لدى الشخص. مواقف الغرب، ديانة الغرب، حضارة الغرب، تاريخ الغرب، وحتى مواطنو الغرب، كلها أجزاء تكمل الصورة وتوضح ملامحها. وما يطبع هذه الأجزاء من سلب أو إيجاب - حسب رؤية الشخص- هو الذي يحدد موقفه من الغرب . فالذي لا يتبادر إلى ذهنه عند الحديث عن الغرب إلا الحروب الصليبية والاستعمار والانحلال ولإلحاد، غالبا ما يكون موقفه سلبيا من الغرب. أما الذي لا يرى في الغرب إلا العدل والمساواة والإنسانية والتقدم، فإن موقفه من الغرب سيكون إيجابيا بالطبع. فما هو هذا الغرب فعلا؟ وكيف نقوم موقفنا منه بحيث يصير موقفا منصفا غير مجحف؟ يخطئ في الحقيقة من يرى الغرب شرا كله، كما يخطئ من يرى الغرب خيرا كله، ففي الغرب أمور تستحق التنويه والتقدير، و في الغرب أمور تستوجب الاستهجان والنكير- من منظور إسلامي طبعا- ليبقى السؤال المطروح: كيف نجمع هذا إلى ذاك لنخرج بموقف عادل لا غلو فيه ولا جفاء؟ تختلف مواقف المسلمين من الغرب اختلافا يبلغ حد التناقض، وذلك حسب اختلاف توجهاتهم ومنطلقاتهم وربما حتى تجاربهم. فمن المسلمين من أصحاب التوجهات العلمانية وأصحاب المبادئ الخبزية مثلا، من يعيبون على المسلمين المقيمين في الغرب انتقاد بعض ما يقع في هذا الغرب. فحسب هؤلاء الناس، ما دمنا نعيش في الدول الغربية، وقد وفرت لنا كل حقوقنا، والتي -وللإنصاف- لا تتوفر في الكثير من الدول الإسلامية، فلا يحق لنا أن ننتقد شيئا أو نستنكره، بل يجب أن نبارك كل شيء، ونقول: "العام زين". وأي انتقاد أو إنكار فهو بمثابة العقوق ونكران للجميل! وهذه النظرة في الحقيقة تفتقد إلى المصداقية، لأنها لم تبن لا على قيم إنسانية ولا على قيم دينية ولا على قيم ديموقراطية. فليس هناك ما يمنع شخصا من النقد وإبداء رأيه في أمر ما، ما دام ذلك النقد أو الإنكار يقع في إطار ما تسمح به قوانين البلد. فنحن وإن انتقدنا بعض الأمور في الغرب، انطلاقا من مرجعيتنا الإسلامية، فإننا وبالمقابل ملتزمون بقوانين الدول التي نقيم بها، مراعون حقوق الجوار وحقوق المواطنة والإنسانية التي تجمعنا. ثم إن قوانين وأعراف البلد تسمح بذلك، وأهل البلد من غير المسلمين ينتقد بعضهم بعضا، وعلى جميع الأصعدة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحتى قيميا، وربما بذلك النقد تتعرض الأفكار والبرامج للتدقيق والتمحيص والمراجعة، مما ينعكس بالإيجاب على مستوى جودتها. من هذه الزاوية يجب أن ينظر إلى النقد أو الإستنكار الصادر من المسلمين المقيمين في الغرب، على أنه إثراء وغناء لتلك الدول ولمكوناتها وثقافتها، لا على أنه تهديد أو عداء لحضارتها. إذا فمن حقي أن أنتقد وأستنكر ولن ينقص ذلك من وطنيتي وانتمائي لهذا البلد شيئا. موقف آخر تتبناه فئة واسعة من المسلمين، هو على النقيض من الموقف الأول تماما، حيث هناك من لا يستسيغ وصف الغرب بشيء من الإيجاب والخير أبدا، فكلما لاحت في الأفق فضيلة من فضائل الغرب تستحق التنويه والمدح، إلا وجدته يسارع إلى تشويه هذه الفضيلة ومحاولة طمسها وإبراز ما يراه من مساوئ الغرب ليغطي محاسنه. غالبا ما ينطلق أصحاب هذا الموقف من منطلقات دينية، حيث يرون أنه ما دام الغرب كافرا فلا يمكن أن يصدر منه خير. ومن مدح الغرب أو أثنى على شيء من خصاله، فكأنه يمدح الكفر والإلحاد! لذلك تجد بعض الناس يتقربون إلى الله بتشويه الغرب، مستعملين كل ما أتيح لهم من قصص ونصوص وأقوال وأفعال دون تمحيص ولا تدقيق ولا تثبت، لأن غاية تشويه صورة الغرب، تبرر كل الوسائل عند هذه الفئة، وإن كانت هذه الوسائل مخالفة لآداب الإسلام، كالتعميم وإصدار الأحكام دون تثبت وسوء النية وغيرها. كنت في نقاش مع بعض الأصدقاء حول هذا الموضوع، فبدأ يتحدث عن الغرب وينسب إليه أمورا لست مقتنعا بصحتها، فبدأت أدافع عما أراه حقا، فاستغرب صاحبي وقال: لم أكن أتوقع منك أن تدافع عن الكفار وأنت إمام خطيب! قلت له: إنني أدافع عن قيمي وقيمك، إنني أدافع عن العدل والإنصاف والتجرد للحق وهي مبادئ قرآنية، لمن كان يعقل القرآن فعلا. إن القرآن لم يجد غضاضة أن ينسب إلى الكفار ما يقومون به من أعمال إيجابية، حيث وصف بعضهم بالأمانة فقال تعالى {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} آل عمران)75) . فالقرآن يشهد أن من أهل الكتاب أمناء. وسيدنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد كذلك غضاضة أن ينسب إلى غير المسلم ما يتصف به من خصال حميدة. فلما أذن صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة قال في وصف ملكها النجاشي: "إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد". ومعلوم أن النجاشي كان نصرانيا آنذاك، لكن نصرانيته لم تمنع النبي أن يشهد له بالعدل. فكون الغرب ليس مسلما لا يجيز لنا أن نجرد أهله مما يتصفون به من خصال الخير. كما لا يجوز لنا أن ننسب إليهم ما لا يصدر عنهم من خلال الشر إلا ما قامت عليه الحجة والدليل. حدث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن سرق أحد الأنصارشيئا، فخبأه في دار يهودي، فلما وجد الشيء المسروق في بيت اليهودي كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقب ذلك اليهودي، لأن التهمة قد ثبتت في حقه بوجود المسروق في بيته. لكن الله أنزل القرآن ببراءة هذا اليهودي وفضح واتهام ذلك المسلم الذي قام بالسرقة فعلا. وعلى إثر هذه القصة نزلت آيات بينات من سورة النساء. قال تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً...} (105). فمبدأ العدل فوق الإنتماءات الدينية، وفوق الخلافات الشخصية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) المائدة آية(8). أمر آخر أستحضره من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو موقفه من عمه أبي طالب، الذي نعتقد -نحن أهل السنة- أنه مات كافرا، ومع كفره لم أسمع أحدا من المسلمين يذكره بسوء، ولم أقرأ شيئا من ذلك، بل بالعكس ما نقرأه ونروجه هو دفاعه عن الإسلام والمسلمين. فهل كفره أسقط فضائله؟ وهل كفره أنسانا مواقفه الإيجابية نحو رسول الله ونحو الإسلام؟ وهل من العدل أن يكون موقفنا من أبي طالب هو موقفنا من أبي لهب؟ مع أن الكفر يجمعهما معا؟ بناء على ما سبق أقول: -إن الموقف من الغرب يجب أن يتميز بعدم التعميم، فلا نؤاخذ اليسار أو الوسط بمواقف اليمين المتطرف، كما لا نؤاخذ الشعوب بمواقف الحكومات، ولا نؤاخذ الأولاد والأحفاد بأفعال الأجداد، {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. -إن إثبات ما للغرب من فضل لا يتناقض مع الإسلام أبدا، فلا نتحرج أن نقول إن في الغرب عدلا وكرامة وحرية وحقوقا لا تتوفر في الكثير من المجتمعات الإسلامية. ولا نتحرج كذلك أن نشيد بمواقف من ينصر قضايانا من غير المسلمين. - إن نسبة أفعال الخير إلى غير المسلم لا يعني الإيمان بأن الله سيجازيه عليها يوم القيامة، فقد ربط الله مبدأ الجزاء الأخروي بالإيمان، بل حتى المسلم الذي يأتي بالأعمال رياء لا يقبلها الله منه، فما بالك بمن لا يؤمن بوجود الله أصلا؟. - إنه لا يجوز في الإسلام أن ننسب للغرب أو غيره ممن يخالفنا في المعتقد أو التصور أفعالا أو أقوالا، أو نلصق بهم تهما لسنا متأكدين من صحة نسبتها إليهم. فالكثير من المسلمين - مع الأسف - يصورون الغرب وكأنه يقعد للإسلام والمسلمين كل مرصد، وأن هم الغرب والغربيين الوحيد هو القضاء على الإسلام، وأن كل سياساتهم وتوجهاتهم وخطواتهم الهدف من ورائها إلحاق الضرر بالإسلام! وهذا الزعم يحتاج إلى أدلة وبراهين قاطعة، لأنه اتهام خطير تترتب عليه نتائج كارثية، كتجييش المسلمين وقيام بعضهم بردود أفعال قاسية وعنيفة قد تخلف فسادا في البلاد والعباد، لأن مرتكبيها اقتنعوا بأن الغرب يحارب الإسلام، وهم بفعلهم هذا إنما يدافعون عن الإسلام عند زعمهم. لكن، ماذا لو كانت ردود الافعال هذه مبنية على موقف غير سليم؟ فهل الغرب فعلا بعمومه وسياساته يحارب ويعادي الإسلام؟ . لقد قرأت خبر تلك السياسية الأسترالية التي كانت مرشحة لرآسة وزراء أستراليا، وأثناء حملتها الانتخابية وفي برنامج تلفزيوني ، سئلت عن الإسلام فأجابت جوابا تبين من خلاله أن المسكينة كانت تعتقد أن الإسلام دولة ولم تكن تعلم أنه دين، فكيف أصدق أن هذه تحارب الإسلام وهي لا تميز إن كان هذا الإسلام ديانة أم دولة؟ -إننا لا ننكر أن في الغرب متطرفين وأعداءا للإسلام. لكن، كم يمثلون من عموم هذه الشعوب؟ وما مدى تأثيرهم في سياسات الدولة؟ ثم ما هي الأسباب التي جعلتهم يعادون الإسلام؟ و بأي طريقة يجب أن نرد عليهم؟ أجيب على ذلك بتجربة عملية لا با لقول والتنطير. لقد أقمنا أياما مفتوحة للهولنديين بمناسبة افتتاح مسجد روزندال بهولندا،وهو المسجد الذي أخطب وأؤم الناس فيه، ففاجأنا الحضور المكثف للهولنديين، حيث فاق العدد ثلاثة آلاف زائر خلال يومين فقط. وكانت كل ردود أفعالهم وبدون استثناء إيجابية، وعبروا عن فرحهم ورضاهم بل وافتخارهم بهذا المسجد، حتى قالت إحدى الزائرات "إنني أرى هذا المسجد بمثابة جوهرة تزينت بها مدينة روزندال"، بل حتى الذين عارضوا بناء المسجد في البداية من الجيران أصبحوا في صفنا وأصبحوا يدافعون عن المسجد، ويصرحون بذلك لوسائل الإعلام، موضحين أن مواقفهم السابقة كانت مبنية على تخوفات وأحكام مسبقة منشؤها الجهل بحقيقة الإسلام والمسلمين. charif [email protected]