من الصعب أن يقف الحديث عن السياسة وأمورها، ومشاغل الناس وشؤونهم العامة، في أي بلد من بلدان العالم، وخاصة في بلدان العالم المتأخرة عن ركْب الإنسانية. والحقيقة أننا لن نُساجِل حول مصطلح التخلف، وعن أسبقية الحضارة عندنا وانتهائها عند قوم عادوا لاستعمار الأمم واسترقاق أهلها، وما إلى ذلك. ولكنْ، حديثُنا سيكون عن قضية التغيير اللازم الذي لا يُدْرك أهميتَه كثيرون؛ وحتى إن أدركوه، لم يملكوا الكيفية السليمة لقيامهم بذلك، ولم تسعفهم الجرأة أيضا في أحايين كثيرة، خصوصا حين تتعارض لديهم المصالح والمبادئ. هذا، وحين حصلت تغييراتُ تونسَ بدا وكأنَّ الأمر لاشعوري؛ حيث ثار الأهالي وأنهواْ أيام الديكتاتور الأسبق، والأخف دما، من خفة عدد الضحايا القتلى، مقارنة مع "أُسْد الغابة" (ومن سيليهم من الصحابة) - على وزن كتاب "أُسْدُ الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير (555-630 ه.)، ومن هذا اللاشعور تسللت ثورةُ مصرَ، وأنْهت أيام مُبارَكِها، الذي لعنها طيلة ثلاثين سنة؛ أضف إليها حصيلةَ حُكم العسكر إجمالا منذ مجيئهم عام 1952، لكنها نجحت على أية حال، ولا نرى هناك من ضرورة للهلع على مستقبل إنسان النيل وأراضيه، دون أن نغفل ضرورة اليقظة. لكن، ما لم يحدث في غير هذين البلدين يشي بأن الذين ادّعوا استثناءا أيقظوا إن لم نقل زادوا من يقظة الذين يمسكون بتلابيب البلد وأهله برضاهم وإجماعهم طبعا. ومن ثَمّ، تحول الوضع من حال لاشعورية إلى حال شعورية، بات من الصعب معها تحقيق غير الوثيقة الدستورية التي أطلعنا بعض من كتبوها عبر الصحف، والغرف المغلقة أنها ليست هي التي طبّل لها وزمّر لها من زمّر. أما من عارضها فلم يجد وسيلة للتعبير عن رأيه، فالوسائل التي ينبغي أن يخاطِب من خلالها الناسَ مقفلة قصرها مرصود، لا يستطيع أحد أن يقول غير ما يقول "المخزن". وعَوْدا إلى قضية المخزن، فالمسألة تحتاج إلى تفكيك، من لدن علماء الاجتماع والتاريخ والسياسة وغيرهم. إلا أنه ما كان لنا مع ذلك إنكار الجهل الكبير بطبيعة المخزن. ولعل من الإشكاليات التي ينبغي أن نواجهها هي أن نعيد النظر في اختصار المخزن في شخص أو مؤسسة، هي عادة ما تريح التحليلات التنفيسية لتجاهر في بعض المواقف الشجاعة، والتي أصبحت مبتذَلة، بكون المخزن هو السلطة السياسية والإدارية، والملك... وفي بعض الأحيان تختلط القضية بالدولة، ويتيه المصطلح وينساب مثل السراب، حتى إذا جاء الظمآن ليغْرِف ممّا حسبه ماءً، لم يكد عندها يجده شيئا. إذن، هل المخزن الذي يشكو منه المغاربة، على سبيل المثال، سراب أم حقيقة؟ وما طبيعة المخزن، إذن؟ نرى في بعض الخطابات السياسية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في البلاد من شبهه بالتماسيح والعفاريت. والحق أن الأولى واضحة، أي التماسيح لكون الناس إن لم يكونوا قد شاهدوا تمساحا أو تماسيح على الحقيقة فقد شاهدوها في برنامج وثائقي عن البراري، وغيرها. فالتماسيح إذن معروفة، وقوتها الفتاكة وروحها العدوانية ظاهرة لا تخطئها العيْنُ. لكن ما بال العفاريت؟ "قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ..." (سورة النمْل: مقطع 40). جاء في تفسيرها مما قاله الفَرَّاء (144-207 ه): "والعِفريت: القوىّ النّافِذ. ومن العرب من يقول للعفريت: عِفْرِية. فمن قال:عِفْرِية قال فى جمعه: عَفَارٍ. ومنْ قَالَ: عِفريت قال: عفاريت وَجَاز أن يقول: عَفارٍ..." انتهى قول الفَرّاء. سنحتفظ مما تقدم بالقوة والنفوذ. وفعلا نرى أن قوةَ هؤلاء ونفوذَهم تبدو ماديةً وملموسةً وإن لم يُعْرَف مصْدرُها. وحتى إن عُرِف التزم الذي يتسلط عليه الأثرُ الصمتَ، أو امْتثل لتلك الرغباتِ مهما كان مجنونُها أو جُموحُها. وإذا رأى غير ذلك بأن يتصدى لتلك الرغبات كان الجواب مُغَلَّفا في تهمة جاهزة، أو ملف ضرائب متأخرة أو عزلا من منصب، أو تنقيلا عقابيا، وربما افتعال الحوادث حتى تبدوَ التصفيةُ قضاءً وقَدَرًا وما إلى ذلك. ونادرا ما يبتلعُ العفريت الصدمةَ ويُسِرُّها في نفسه، حتى حين. فما كلُّ العفاريت يوسُفَ النبيّ، الذي أسَرَّها في نفسه ولم يُبْدِ لإخوتِه شعورَه، حين اتهموه بالسرِقة. ومهما يكن من أمر فهذا النوع من العفاريت يوجد في كل البلدان، وليس حكرا على "الإيالة الشَّريفة" ورعاياها الخُدام. لكن نعود للسؤال المحير من هو المخزن حقيقة؟ في الحقيقة لسنا من أنصار تضييق مفهوم المخزن حتى نضعه في حيز ضيق يتمثل غالبا في السلطة السياسية العليا وما يتعلق بها من حاشية، وأعوان، ومن لهم نفوذ شرعي، أو من ينسب نفسه إلى السُّدَّة ويتصرف وفقا لرغباته مختبئا وراء تلك الشرعية، التي يستمدها من ولي نعمته. لذا، ندعو إلى تأملات أخرى توسع من نطاق زاوية نظرنا إلى المخزن باعتباره وسيلة لتعطيل أية إصلاحات، وتحت أي مسمى. والمغرب باعتباره بلدا أقدمَ من المملكة المتحدة [United Kingdom] ما كان له أن يتأخر عنها ليصل إلى ديمقراطية مقبولة، ورخاء اقتصادي مشابه، وإن بدت على الأخيرة آثار الأزمة الأخيرة حتى بات الساسةُ يفكرون في استفتاء الشعب على الخيار بين البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الانفصال عنه. لكن، ومهما يكن من أمر، لسنا نجازف بالقول إن التطابق هو الأعلى، وأن على المغرب أن يحذو النعل للنعل المملكةَ المتحدةَ. لكن الإشاراتِ الموضوعيةَ تجعلنا نتشابه ولو من حيث المظهرُ والثقلُ الثقافيُّ والحضاريُّ مع المملكة المتحدة. لكن الأخيرة ارتضت الديمقراطية فيما الأولى لا ترغب في ذلك، بسبب عوائق كثيرة تحدث عنها الباحثون والسياسيون الذين مارسوا مجاورة المخزن، وكذا المؤرخون. وفي هذا السياق، نرجو أن يكون توسيعنا لمفهوم المخزن عاملا مساعدا على التوعية بحجم السرعتين اللتين يسير بهما. فنجد مخزنا سلطويا أعلى، يهيمن على الحياة الماكرو للمجتمع ويتحكم في المقدرات الاقتصادية والاختيارات السياسية الكبرى، والثقافية ويرأس الدائرةَ الدينيةَ؛ ومخزن شعبي يهيمن على الحياة الميكرو للمجتمع. وهذا المخزن الأخير هو الحلقة الأقوى، لكونه يرهن نفسه طواعيةً في كثير من الأحيان للمخزن الأول. إذ لولا خنوع المخزن الثاني لما استأسد المخزنُ الأول، ولَما أغلق كل المنافذ والشبابيك. فالسلطة العليا سرعان ما تنهار مهما بلغت قوتُها وسطوتُها إذا لم تستند على جدار غير مرئي لكنه محسوس وهو جدار الخوف. ونستبعد أن يكون هذا الجدار قد انهار بسبب الانتفاضات الإقليمية في تونس ومصر، وغيرها من بلدان شمال إفريقيا. فالخطاب الذي حمل معه بشائر دستور يوليو سرعان ما "تم تصحيحُه بخطاب العرش" على حد تعبير الأستاذ محمد الساسي في الجامعة السياسية حول سؤال التغيير الديمقراطي ومهام القوى اليسارية والديمقراطية، بالرباط في نونبر 2012. ومعنى هذا أن الدستورَ نفسَه وإن كان ممنوحا فإن آباءه لم يعودوا يرون جدوى من احترامه، فأحرى أن يعترفوا أنه نتاج الحراك الإقليمي الذي هبت بعض نسائمُه على البلاد خلال تلك الفترة العصيبة. غير أنه يجب الاعتراف أن النقدَ وجب أن يوجّه إلى المخزن الشعبي، وليس إلى المخزن الأعلى فقط. وجب أن يدرك المخزن الأقوى (الشعب)، أن المخزن الأضعف (الحُكْم) إنما قام بدوره كما يقتضيه أي حاكم يريد البقاء في السلطة ويستأثرَ بالنفوذ بأنواعه، وهو ما حاوله كل الحكام في المملكة المتحدة، وحتى الملكة فيكتوريا (1819-1901)، وإن اقتضى العُرْف أن يفوِّض الملكُ الإنجليزيُّ سلطاتِ مباشرةِ الحكم لوزيره الأول، منذ الملك "جورج الأول" (1660-1727 م) الذي لم يكن يتحدث الإنجليزية، فكان يصعب عليه متابعة المجلس الحكومي بغير اللسان اللاتيني لكونه نشأ في ألمانيا. وبقي التقليد مُتَوارثا إلى اليوم. غير أن السلطة في بريطانيا لم تتحكم فيها فقط هذه الصدفة العجيبة، وإنما تعرضت لضغط اجتماعي وسياسي وثقافي. فكلما قَوِيَ الضغطُ من المخزن الشعبي تراجع نفوذ المخزن السُّلطوي. وليس الغرض أن يُفْني أحدُهما الآخر، وإنما وجب أن يكون هناك سلطة مضادَّة معترفٌ بها ومُحْتَرَمة، تعرف هي الأخرى حدودَها، وتحافظ عليها، وتنتزع احترامَها. إذ بدون ذلك لن يتنازل المخزن الأضعف للمخزن الأقوى طواعية. فليس كل الملوك "خوان كارلوس الأول" (تولى الحكم 1975 عقب وفاة الديكتاتور "فرانسيسكو فرانكو" [1892-1975]). ومفتاح كل ذلك هو الوعي، فكلما اتسعت دائرة الوعي بأهمية الفرْد، وقوته انتزع الاحترامَ وكلما ضَمُر هذا الوعي استفحل الاستبدادُ وأدلى المخزن رجليه يجرهما وهو يركب ظهر المخزن الشعبي. وفي ختام جزئنا الأول نسترجع بعضا من الأفكار التي نريد أن نوسع قاعدة الوعي بها لنقول إن الظاهرة المخزنية ظاهرة عامة شاملة وطامّة. تشكل عبئا على الفرد، كما تشكل نيرا ثقيلا على المجتمع. وسيدفع ثمنَها الباهظَ كلٌّ من المخزن الضعيف (السلطة السياسية / الحُكْم)، والمخزن القوي (الشعب / أفرادا وجماعات). إذن، وجب أن يتحرر كل فرد من مخزنه الذاتي، ورقابته العامة والخاصة أولا؛ كما وجب أن يتحرر كل طرف من مخزنيته التي يريد أن يوجهها إلى من يعتقد أنهم أضعف منه. إن المخزنية [Makhzenism] عبء على كل الفاعلين في المجتمع. ووجب تشجيع أي اتجاه يريد التخلص منها، حيث باتت تشكل وباءا عاما وخطرا يتهدد الكيان المغربي برمته. فبمواصلة الاحتكار بكل أنواعه، بما في ذلك قضايا الأمة المصيرية، واستسلام القوى المضادة وانهيارها بالتشتت والريبة وانعدام وضوح الهدف والرؤية، سيكون على المغرب أن يواجه امتحانات عسيرة، قد يكون أسوءَها ذهاب الكيان المغربي وتشتته. وبتشتت المغرب وانهيار الدولة، وتفكك المجتمع سيكون أمامنا عقود من الزمن حتى نتصور اجتماعا لمجتمع قادر على تجاوز المراحل التجزيئية. لكن السؤال هو هل سيعي الفرد المغربي أنه هو المخزن، وليس السلطة التي يرمي بكل فشله على عاتقها؟ وهل بإمكان الحُكْم أن يقوم بخطوات ناجعة تحفظ له هيبته وتحقن الدماء وتعيد الأمور إلى نصابها؟ *باحث في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان، كندا