قال الدكتور رشيد مقتدر، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، إن "مصير حركة 20 فبراير مني بالفشل بعد إقرار الدستور الجديد"، مضيفا أنه يتعين الإقرار بأن "ما تحقق من إصلاحات سياسية ودستورية يعزى لما مارسته الحركة من ضغوطات واحتجاجات". وأكد مقتدر، في حوار مع جريدة هسبريس، أن "سرعة استجابة الملك محمد السادس لمطالب التغيير والإصلاح في الشارع المغربي، واعتماده لأجندة إصلاحية هائلة، أفضيا إلى عزل حركة 20 فبراير وتحييدها"، مبرزا أن "لا شيء يمنع من إعادة ظهور حركات تحمل المطالب والأهداف نفسها ل 20 فبراير". كيف تقيم أولا دكتور رشيد مقتدر سياقات المشاركة السياسية وطبيعة الفعل الاحتجاجي بشكل عام في المغرب؟ أولا، شكرا على استضافة جريدة هسبريس الرائدة لي.. في رأيي المتواضع، تأخذ المشاركة السياسية شكليْن، أولا المشاركة السياسية الاتفاقية التي تقوم على المشاركة من داخل النظام السياسي، ووفقا لقواعد اللعبة السياسية، مثل المشاركة الحكومية أو البرلمانية أو غيرها. وثانيا المشاركة الاحتجاجية التي تتم من خارج النظام السياسي، وذلك عبر ما يسمى بالحركات الاجتماعية ذات الطابع الاحتجاجي، وهي مجموعة من الأفعال الجماعية التي لا تخضع لضوابط السلطة ورقابتها، وتهدد باستمرار، سواء كانت عفوية أو منظمة، استقرار النظام، وقد تفضي في حالة احتدام الاحتقان، أو سوء تدبيره، إلى ثورات اجتماعية، كتلك التي شهدتها تونس ومصر وسوريا. وتدفع المشاركة السياسية في بعدها الرسمي أو المؤسساتي، برفعها لشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها، إلى الإسهام في المحافظة على السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، ويستفيد في هذا السياق طرفان: الطرف الأول هو النظام السياسي الذي يحافظ على استقراره السياسي، وتوازناته الاجتماعية، وهو ما يقوي من مكانته على المستوى الإقليمي والدولي، ويعزز من مستوى ثقة القوى العظمى والمؤسسات المالية. أما الطرف الثاني المستفيد، فهو التنظيمات الحزبية التي تدعم المسار السياسي الإصلاحي للنظام عبر شرعنة خطواته ودعم سياساته، وبالمقابل فإنها تستفيد ماديا من خلال الدعم المخصص للأحزاب وجرائدها، وما يترتب عن العملية الانتخابية من مزايا رمزية سياسية ومادية، كالمناصب الوزارية والمقاعد البرلمانية وغيرها. أما الفعل السياسي الاحتجاجي عبر ما يسمى بالحركات الاجتماعية، فهي لا تمر عبر وساطة النخب السياسية الرسمية، لكونها أفعال سياسية اجتماعية غير منضبطة بقواعد اللعبة السياسية، وتبتعد عن إكراهات الإطار المؤسساتي والقانوني، لأنها غير معنية به، وهو ما يشكل مصدر تخوف السلطة. ظهرت حركة 20 فبراير بالمغرب في سياق الحراك العربي الذي شهدته عدد من بلدان المنطقة..كيف قرأت كمحلل أكاديمي بدايات الحراك المغربي، ووزن تأثيره على المشهد السياسي المحلي؟ تكونت حركة 20 فبراير في بداياتها من مجموعة من الفعاليات المدنية المستقلة، والتي التحقت بها فيما بعد بعض القوى السياسية كالنهج الديمقراطي، واليسار الاشتراكي الموحد، وحزب الطليعة، وجماعة العدل والإحسان. لقد شكلت الرغبة في حلحلة جمود العملية السياسية والتذمر من أخطاء السياسة واختلالات المجتمع، عنصرا وحد معظم مكونات حركة 20 فبراير، لكن تطور سيرورة الحراك وبروز حسابات سياسية لبعض مكونات الحركة بدأ في إظهار تباين مكوناتها وتضارب مرجعياتها الإيديولوجية ومشاريعها السياسية. وإذا كانت معظم مكونات حركة 20 فبراير قد اشتركت في ضرورة إقرار الديمقراطية، ونبذ الاستبداد، والمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية، فإن التحول من عمومية المطالب و"طوباويتها" إلى الدخول في برامج عملية ملموسة، شكل أكبر تحدّ للحركة. حركة 20 فبراير رفعت مطلب الملكية البرلمانية الذي كان شعارا تقاسمته معظم مكونات الحركة، إلا أنها لم تكن تمتلك تصورا سياسيا ودستوريا متكاملا حوله، ولم تحاول أجرأته في مقترحات عملية، بل ظلت مجرد شعارات عامة. وإذا كان شعار الملكية البرلمانية قد جسد الفعل الاحتجاجي للحركة، ومطالبتها بإسقاط رموز الفساد، متأثرة بدينامية الحراك العربي في تونس ومصر وغيرها، فإن حركة 20 فبراير تجاوزت بذلك الفعل السياسي للأحزاب التي ظلت في وضعية انتظارية. كيف تقيم رد المؤسسة الملكية على الحراك المغربي حينها؟ المؤسسة الملكية اختارت في تدبير مرحلة الحراك السياسي والاجتماعي خيار الإصلاح السياسي في إطار الاستمرارية، بإقدامها على تصحيح مجموعة من الاختلالات السياسية والاجتماعية، من قبيل إدماج حوالي 4304 من أصحاب الشهادات العليا، وإعادة الأمل للحشد الجماهيري المنتظر لقرارات عملية في خطاب 9 مارس 2011، وأيضا مقترح تعديل الدستور، عبر ما عرف بالمرتكزات السبع، وهي ترسيم اللغة الأمازيغية، وترسيخ دولة الحق والمؤسسات، والارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وتوطيد مبدأ فصل السلط، وتقوية دور الأحزاب، ودور المعارضة البرلمانية، وربط ممارسة السلطة بالمحاسبة. لقد تضمنت هذه المبادرة قرارات سياسية إستراتيجية في صيغة عرض دستوري وسياسي مغري، وهي خطوات إصلاحية رغم الاختلاف في تقييم نجاعتها ومراميها، إلا أنها مثلت رد فعل من النظام وتلبيته لجزء من مطالب الشارع، وهو ما جسد وعيا سياسيا للمؤسسة الملكية واتخاذها للقرارات المناسبة في مرحلة الفورة والغليان، عكس أنظمة أخرى أدخلت بلدانها إلى الهاوية السياسية. وفضل الملك منطق الإصلاح على منطق المواجهة، واقترح رزمة من الإصلاحات التي توجت بإحداث لجنة ملكية استشارية استندت إلى خطاب 9 مارس كخارطة طريق، وعملت بمنهج أخد المقترحات الدستورية للأحزاب السياسية والمنظمات النقابية وجمعيات المجتمع المدني، وهو ما توج بمشروع دستور عرض على الاستفتاء الشعبي. وهي إستراتيجية أغرت معظم الفاعلين السياسيين والمدنيين للتفاعل معها، لأنها تضمنت برنامجا عمليا للخروج من المتاهة السياسية والاجتماعية التي كان يعيشها المغرب، وساهمت في تحييد حركة 20 فبراير، وعزلها عن محيطها الاجتماعي والسياسي، بينما ظلت حركة 20 فبراير ترفع شعار الملكية البرلمانية وتتبنى خطابات عامة وغير ملموسة. ولم تحاول الحركة تقريب المسافة بينها وبين النخبة السياسية أو توسيع مستويات الثقة بينهما، لأن الحركة كانت ضحية لتباين مكوناتها غير المتجانسة إيديولوجيا وسياسيا وتنظيميا، وما عمق من أزمتها استشراء خطابات تراوحت بين الاعتدال والتشدد، مثل مناداة بعض التيارات المتشددة رغم محدوديتها بمطلب إسقاط النظام، وهو ما عمق من شرخ التناقضات داخل الحركة، وكان من أبرز مؤشراتها انسحاب جماعة العدل والإحسان. هل يمكن الحديث أستاذ رشيد عن إضافات قدمتها حركة 20 فبراير للحياة السياسية بالبلاد؟ أنتجت حركة 20 فبراير، في رأيي، فعلا سياسيا مجتمعيا شكل استجابة طوعية لنبض المجتمع، قصد تجاوز إحباطات السياسة ومحدوديتها، فخلقت بذلك حركية سياسية جديدة تجاوزت انسداد أفق العمل السياسي واختلالاته، وهو ما توج بخطاب 9 مارس 2011. وأيضا تمكن الحراك المغربي في 2011 من تحقيق فعل سياسي تاريخي، اضطر معه النظام إلى إقرار دستور جديد تحت ضغط مطالب ذات سقف مرتفع، مثل مطلب الملكية البرلمانية، وهو ما فشلت في تحقيقه الأحزاب السياسية مند مرحلة الاستقلال. وشكلت الحركة أيضا تجاوزا لوساطة النخب السياسية والحزبية التي ظلت في موقع المتفرج المفتقد لأية مبادرة لحل هذه التوترات، بل قامت الحركة بالمبادرة ورفعت مطالب تجاوزت ما تنادي به القوى الحزبية؛ كما أنها طمحت إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية بينما هدف النظام التغيير من داخل القواعد المؤطرة للعمل السياسية. لكن السؤال الذي يطرح هنا..لماذا تتمكن الحركات الاجتماعية الاحتجاجية من لفت انتباه الدولة لها، وسرعة تفاعلها معها بالسلب من خلال ممارسة العنف المادي ضد المحتجين، أو بالإيجاب من خلال تلبية المطالب؟ يجب التمييز في هذا السياق بين ما تقوم به النقابات من احتجاجات ومظاهرات تكون موسمية الطابع، أو مرتبطة إما بمطالب عمالية صرفة أو مطالب سياسية، حينما تكون النقابة تابعة لحزب سياسي فتتبعه في مواقفه السياسية. والنقابات لا تمثل أي تهديد للدولة أو الحكومة، بل إن هذه الأخيرة أصبحت لا تكترث لخطاباتها بالتصعيد، لأنها تدرك مكامن ضعفها بتبعيتها لأجندات حزبية معينة، وضرورة التزامها بقواعد اللعبة السياسية، لأن لديها مصالح لتحافظ عليها؛ في حين إن الحركات الاحتجاجية غير المؤطرة سياسيا هي التي تؤرق الدولة. لماذا برأيك أستاذ مقتدر؟ في اعتقادي، الحركات الاجتماعية العفوية ليس لديها أولا ما تخسره، ولا تربطها بالنظام مصالح أو توافقات، وشكلت حركة 20 فبراير أبرز نموذج لها. ومثال ذلك الحركة الاحتجاجية للأساتذة المتدربين الذين كانت لهم مطالب مهنية خالصة، والتي اضطرت الحكومة إلى التفاوض بسرعة معها وفقا لعدة آليات، إلا أن سوء تقدير الحكومة وثقتها الزائدة في الاستخفاف بمطالبهم، عكس التعامل الأمني مع حركة 20 فبراير الذي تجنب القمع والاستفزاز، والتعامل القاسي لأجهزة الأمن مع حركة الأساتذة، أساء أولا للصورة الخارجية للبلاد كنموذج للديمقراطية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وجلب ثانيا تعاطفا سياسيا مع هذه الشريحة من الأساتذة، واستنكارا سياسيا وتضامنا حقوقيا واسعا. وهذا أحرج الحكومة التي أقسم رئيسها بأنه لن يتراجع عن المرسومين، وهي سابقة سياسية غريبة تثير العجب، فالحكومة هي التي تصدر قرارات سياسية مسؤولة وتتحمل مسؤوليتها، بينما القسم باليمين هي آلية دينية شخصية تصدر في شكل رد فعل انفعالي لشخص ما. نصل الآن إلى السؤال المحوري..هل احتجاجات الأساتذة والممرضين والأطباء والعمال..إلخ يمكن أن تعيد الوهج إلى حركة 20 فبراير، بعد 5 سنوات من ظهورها في الشارع المغربي؟ إذا كان مصير حركة 20 فبراير قد مني بالفشل بعد إقرار الدستور الجديد، فإن ما لا يمكن إهماله أن ما تحقق من إصلاحات سياسية ودستورية يعزى لما مارسته الحركة من ضغوط واحتجاجات ومطالب أعادت الحيوية للفعل السياسي ومؤسساته، إلى جانب استجابة الملك لمطالب التغيير والإصلاح، واعتماده لأجندة إصلاحية أفضت إلى عزل الحركة وتحييدها. وإذا كان بريق الحركة وتوهجها أضحى شبه منعدم، فإن مصطلح حركة 20 فبراير أصبح يرمز إلى الطموح السياسي والاجتماعي الرامي إلى تحقيق الحرية والعدالة ومحاربة الاستبداد، وبالتالي فحركة 20 فبراير هي مجازا تنعت به تلك الحركية السياسية والاجتماعية المدافعة عن حقها في الحرية والعيش الكريم، والساعية إلى مقاومة التسلط. طبعا الحركة اختفت من الساحة المجتمعية والسياسية، إلا أن لا شيء يمنع من إعادة ظهور حركات تحمل المطالب والأهداف نفسها، ذلك أنه خلال مرحلة الأزمات والاحتقان لا يمكن توقع مآلات التحولات ودينامية التغيير التي قد يعاد إحياؤها بسهولة، ولنا في نماذج الثورات الفرنسية خلال القرن التاسع عشر خير مثال. ويمكن أن تنجم عن التحولات السياسية والاجتماعية حركة اجتماعية سياسية ليست بالضرورة أن تكون نسخة لحركة 20 فبراير التي فاجأت الدولة، ولكن حين تتوافر شروطها الذاتية والموضوعية، وهي قضية ترتبط بتفاعلات المجتمع والدولة.