قبل مدة، دخلت مسجد الحي الذي أقطن به، بعد أذان المغرب، وجلست مباشرة قرب أحد جيراني، الذي بادرني بسؤال : لماذا لم تصل تحية المسجد؟.. فأجبته بتلقائية بأنه حسب الرأي المشهور في المذهب المالكي لا نافلة قبل صلاة فريضة المغرب.. انفعل محدثي وحرك يديه بعصبية وهو يغمغم بكلمات فهمت منها أنه يرى في هذا الالتزام بالمذهب المالكي نوعا من "التزمت".. قد تبدو هذه الواقعة عادية تتكرر يوميا في مساجد المغرب التي أصبحت أشبه ب"منظمة المؤتمر الإسلامي"، لكنها في الواقع حالة معبرة عن عدم إدراك كثير من الناس لمعنى نعمة "وحدة المذهب". بل في بعض الأحيان يبدو أن كثيرين منقطعون تماما عن الواقع، ولا علم لهم بما يشهده العالم من حروب وتطاحنات بسبب الطائفية والمذهبية والصراع العقدي. أنا لا ألوم المواطن العادي إذا كان لا يدرك هذه "النعمة" التي تميز بها المغرب على مدى قرون، وجنبته الكثير من الفتن التي فتت دولا صديقة وشقيقة في فترات تاريخية متوالية نعيش بعض فصولها اليوم.. ف"الصحة تاج على رؤوس الاصحاء لا يراه إلا المرضى".. كما يقال. لكن بالمقابل، فإن الجهات القيمة على "الأمن الروحي" للمغاربة، مسؤولة بشكل مباشر عن عدم نشر الوعي الضروري بالمخاطر الذي قد تنجم عن المس بالوحدة "الدينية".. والتي لا مجال لقياس كلفتها بكلفة المس بالوحدة الترابية التي ظلت هاجسا حاضرا -ماديا ومعنويا- طيلة أكثر من أربعة عقود. فاليوم هناك هجمة غير بريئة على المغرب، خاصة في شهر رمضان، حيث تكثر المنصات والأبواق التي تروج لأفكار تتحدى المشاعر الدينية لعامة الشعب. لا أتحدث هنا عن بعض المراهقات والمراهقين الباحثين عن الشهرة، ولكن عن جهات يبدو من خلال التتبع والاستقراء أنها تتحرك "بوحي يوحى"، ووفق استراتيجيات مضبوطة. لكن قبل التفصيل هذه النقطة، لابد من تسجيل وقفة ضرورية عند مسألة في غاية الأهمية، تتعلق بالخرجات التي تقوم بها بعض الأطراف السياسية وحتى المؤسسات الدستورية. فإذا كان هناك توافق -ضمني- على إخراج المسائل الدينية من المناكفات السياسوية والحسابات الانتخابوية والخطابات الشعبوية، ووضعها تحت الإشراف المباشر للملك بصفته أمير المؤمنين، وقصر "الفتوى" في المسائل العامة على الجهة الدستورية المختصة، فإن خرق البعض لهذا التوافق، يساهم في فتح منافذ تتسلل منها "شياطين" الإنس، كما حدث في "قضية الإرث" عندما خاض فيها سياسيون بحثا عن استقطاب الأضواء، وحتى مؤسسات دستورية لم يتحرر بعض المنتسبين إليها من "حمولاتهم" الإيديولوجية القديمة. والمعضلة هنا ليست في لعب البعض بأعواد الثقاب على مقربة من برميل بارود، بل في صمت المؤسسة الدينية المختصة دستوريا. فالقاعدة تقول "لا ينسب إلى ساكت قول لكن السكوت في معرض الحاجة بيان"، وعدم مبادرة المجلس العلمي الأعلى إلى "الذب عن حدوده" في مواجهة المتسلقين والمترامين، قد يؤدي إلى نتيجتين خطيرتين: الأولى، مزيد من الجرأة على المجلس والسطو على صلاحياته واختصاصاته حتى من طرف مؤسسات دستورية ذات طبيعة استشارية.. والثانية، فتح المجال أمام من نصبوا أنفسهم وكلاء حصريين عن الله تعالى، ممن يتنافسون على إصدار أحكام التفسيق والتكفير، في حق المخالفين، والذين يجدون تعاطفا شعبيا كبيرا حتى مع مواقفهم الأكثر تطرفا، لأنها في النهاية تلتحف برداء الرد على "أعداء" الدين. لماذا لا يصدر المجلس إذن بلاغات في "النوازل الكبرى"، أولا لتأكيد انه المختص الأوحد في هذا المجال، وثانيا لإبعاد الدين عن ساحة التجاذب التي لن تقود سوى إلى إيقاظ الفتن النائمة، بل وإحياء الميت منها؟ فإذا استثنينا المقالات التي ينشرها الدكتور مصطفى بن حمزة بين الفينة والأخرى (وربما غيره لكن في حالات نادرة جدا)، للرد على بعض "الأفكار"، وهي المقالات التي غالبا ما تكون عبارة عن دراسات علمية مطولة وموثقة، وتصدر عادة بعد انقشاع غبار المعركة، فإن الصمت هو الجواب الوحيد على كل السجالات التي تمس أحيانا صلب العقيدة، ولا تقف عند "الاختلاف في الفروع".. والأغرب من ذلك أن ردود الدكتور بن حمزة -الذي يعتبره البعض ناطقا غير رسمي باسم المؤسسة- تبدو "شخصية" أكثر من اللازم، أي أنها موقعة من طرفه كعالم دين وباحث متخصص، بحيث يصعب الجزم بما إذا كانت ردا غير مباشر أو ضمني من المؤسسة العلمائية الرسمية التي تحاول تصريف مواقفها بطرق التفافية تفاديا للمواجهة الصريحة، أم هي مجرد مبادرة فردية من رئيس المجلس العلمي لوجدة، بشكل يجعله محل مقارنة مع البرلماني الشهير أفتاتي، ابن نفس المنطقة، الذي يقول رأيه في "المسائل السياسية الخلافية" بطريقة يصعب التمييز فيها بين المواقف الشخصية والأخرى الحزبية. إن هذا يقودنا إلى المحور الرئيسي في هذا المقال، والمتمثل في توالي الهجوم على القاسم الأعظم المشترك بين المغاربة -الإسلام- خاصة، خلال شهر رمضان. فمن دعوات الإفطار العلني، إلى المطالبة بالتطبيع مع الظواهر الجنسية الشاذة، إلى الحديث عن حرية "المعتقد"، إلى النفخ في عبارة "الأقليات الدينية"... فهنا أيضا، لا موقف ولا صوت للمؤسسة العلمائية الرسمية، التي يفترض أن تكون في مجال اختصاصها ك"جهيزة" التي تقطع قول كل خطيب.. وهو دور ليس جديدا على كل حال، حيث يكفي الاطلاع على كتاب "مواقف وآراء رابطة علماء المغرب" لمؤلفه العلامة الحاج أحمد بن شقرون رحمه الله، لتسجيل المواقف الصريحة والقوية للعلماء حتى في ما يتعلق ببعض السياسات العمومية التي تنتهجها الدولة ... فهل تنتظر هذه المؤسسة اشتعال الحرائق للإدلاء برأيها؟ وهل تترك الساحة فارغة ليصول فيها ويجول بعض أصحاب اللحى والعمائم المصابين بعمى الألوان، والذين توقف التاريخ عندهم قبل قرون.. وكذا بعض "الباحثين" المتواضعين علما وفكرا، ممن يعتبرون أنفسهم في درجة "المجتهدين"؟ لا أدري، لماذا لا يتم مثلا، إحداث لجنة أو حتى لجينة من مختصين في علم العقيدة (أو علم الكلام) لربط الاتصال بالمغاربة الذين يتحولون إلى المسيحية، إن لم يكن لإنقاذهم وثنيهم عما قاموا به، فعلى الأقل لدراسة الظاهرة وفهمها؟ فمن المؤكد أن هناك خللا لدى هؤلاء، الذين يخرجون من دين قائم على الاتصال المباشر بالله دون حاجة إلى "تعبئة الرصيد" أو التحقق من "تغطية الشبكة".. إلى دين يتطلب فيه التواصل مع الرب المرور عبر "البدالة" (الستاندار)، وربما الاكتفاء ب"الكتابة الخاصة" أو "الديوان".. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. كما لا أدري لماذا لا تخصص حملات عبر المساجد لتوعية الناس مثلا بمخاطر التمدد الشيعي في المغرب، خاصة في ظل وجود فضائيات شيعية موجهة للأطفال والكبار على حد سواء، وفي ظل محاولة كثير من المندسين التسلل عبر بعض "الثغرات" من قبيل تسويق "زواج المتعة" كغطاء شرعي للزنا.. فهل ننتظر إلى أن نفاجأ ذات عاشوراء بمواجهة دامية بين من يحتفل بهذه المناسبة بالرقص والطبل وبين من يعتبرها مأتما وموسما للطم والعويل؟ صحيح أنه "لا إكراه في الدين"، لكن الأمور بخواتيمها، ومسؤولية المؤسسة الدينية الرسمية الأساسية والمبدئية تتمثل في استباق "الكوارث" لا التعليق عليها بعد حصولها. فاليوم نحن أمام هجمة شرسة على "المشترك" بين المغاربة، وما يبدو الآن مجرد حالات فردية، قد يصبح قريبا جدا تجمعات تطالب ب"حقوق مشروعة"، لكن ذلك سيكون على حساب وحدة الوطن. لقد حضرت في الخطابات الملكية الاخيرة نبرة غير مسبوقة تتعلق بمشاريع التقسيم التي لا يمكن استبعاد المغرب منها، والدين هو أحد المداخل الرئيسية التي قد يتم التسلل منها لتنزيل أية محاولة لشق الصفوف.. خاصة إذا استحضرنا الولاءات الخارجية الصريحة والمعلنة لكثير من "الخارجين عن الجماعة".. إن بعض الدعوات المشبوهة التي يسوقها البعض اليوم تحت مسميات مختلفة، ليست في الواقع سوى عمليات تمهيد وتوطئة سيليها حتما "زحف" بدأت ملامحه تتضح، من خلال تركيز بعض التقارير الحقوقية الدولية على ما تسميه "حقوق الأقليات".. وهي حقوق ترتبط حاليا بجوانب "الحرية الفردية" و"حرية العقيدة"، وستتطور حتما في مستقبل قريب لتشمل الجوانب السياسية، بحيث قد يصبح المغرب مطالبا بتخصيص "كوطا" لكل ملة أو نحلة، هذا إذا لم يفرض عليه اعتماد نظام "المحاصصة" على أساس طائفي على الطريقة اللبنانية.. *** ختاما.. جاء في صحيح البخاري (كتاب الفتن -وفقه البخاري في تراجمه كما يقال-) كان :"حذيفة بن اليمان يقول كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال نعم. قلت وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال نعم، وفيه دخن. قلت وما دخنه؟ قال قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت يا رسول الله صفهم لنا قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". https://www.facebook.com/my.bahta