توالت في الآونة الأخيرة موضة جديدة بالمغرب هي إنشاء هيئات وجمعيات تعلن أن هدفها هو محاربة التطرف الديني، يقدم عليها فاعلون مدنيون أو حقوقيون أو مثقفون؛ وهي مبادرات لها مدلول معين في هذه الظروف الصعبة التي تجتازها المجتمعات العربية، ومن ضمنها المغرب، ومدلولها أن هناك وعيا بخطورة ظاهرة التطرف التي أصبحت تجتاح الثقافة الجمعية وتهدد المشترك الديني والثقافي والاجتماعي الذي يمنح للتعايش فرصة للبقاء والاستمرار؛ ذلك أن ما يميز الناس عن دواب الطبيعة هو القدرة على خلق قواسم مشتركة يؤمنون بها، وتجديدها كلما كان هناك داع لذلك، وهذا هو أصل نشأة المجتمع والدولة، بينما تغيب هذه الإمكانية لدى الفصائل الأخرى. وقضية محاربة التطرف الديني هي قضية تشغل الجميع اليوم، ليس في المغرب ولا في العالم العربي فحسب، بل في كل ناحية من نواحي هذا العالم الذي ننتمي إليه؛ كلما صارت ظاهرة التطرف والإرهاب عالمية كلما صار التصدي لها انشغالا عالميا. وفي بلد كفرنسا، لديه تقاليد تاريخية عريقة في التعايش والعلمانية والحرية الدينية، صار مطلب محاربة التطرف مطلبا جماعيا للمسلمين وغير المسلمين من الفرنسيين، الذين يرون اليوم أن تلك التقاليد التي ضمنت التعايش في الماضي أصبحت تعيش تهديدا مستمرا، وبات الدفاع عن العلمانية مطلبا للمسلمين قبل أن يكون مطلبا لغيرهم. ومع أن فرنسا بلد مسيحي والعلمانية فيه إرث مشترك إلا أن الأصوات المتطرفة حيال الإسلام والمسلمين ما تفتأ تتعرض للنقد من لدن الفرنسيين أنفسهم، والعلمانيين بالذات، بالرغم من أن التعبير عن مواقف متطرفة قد يكون مفهوما من زاوية محددة، في بلد غير مسلم يرى إرثه المشترك مهددا، لكن مع ذلك تتعرض مثل هذه المواقف للنقد والهجوم من لدن المفكرين والمثقفين الذين لا يزالون يعتبرون أنفسهم حراسا للقيم المشتركة، وينظرون من زاوية واحدة إلى التطرف الإسلامي والمواقف المتطرفة ضد المسلمين على أساس أنهما معا تهديد لتلك القيم. وقبل ثلاثة أيام كتب المؤرخ الفرنسي باتريل وايل، على هامش تصريحات نيكولا ساركوزي حول تجريد المهاجرين من "حق الأرض" (Droit du sol)، مقالا عنوانه يكفي للاستدلال به:"سيد ساركوزي، فرنسا بحاجة إلى الوحدة لا إلى الانقسام". للأسف الصورة في المغرب مغايرة تماما، بالرغم من أننا في بلد مسلم الملكية فيه ذات مشروعية دينية والإسلام فيه ليس دينا فحسب بل ثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي الواسع للثقافة. ذلك أن المشكلة التي تطرح نفسها بجدية، وتستدعي التفكير فيها بصوت عال كما يقال دون الحاجة إلى التلاعب بالمفردات، أن بعض هذه الهيئات يغلب عليها طابع تصفية الحسابات السياسية أو الفكرية مع أطراف معينة، ويسيطر عليها الهاجس الإيديولوجي على الهاجس العلمي في موضوع التصدي للتطرف الديني. وأحيانا لا يتطلب الأمر سوى النظر في أسماء الأشخاص الذين يوجدون في بعض هذه الهيئات ليعرف أي ملاحظ أن المسألة تحتاج إلى نقاش. لا يمكن معالجة تطرف بتطرف مقابل. لا تحصل مثل هذه المعادلة الخطرة إلا لإشعال فتيل الصراع وإذكاء عناصر التطرف عوض القضاء عليه أو الحد منه على الأقل. وقبل يومين أو ثلاثة أيام تأسست هيأة تطلق على نفسها "الجبهة الوطنية لمناهضة التطرف"، وخرج السيد خالد الجامعي بتصريح غريب يقول فيه إن "الظلاميين والتكفيريين يريدون بناء دولة داعشية بكل تطرفها بالمغرب ومحمد السادس مستهدف"، وهو تصريح أقل ما يمكن أن يقال عنه هو أنه تصريح منفلت، غير نابع عن أي تحليل موضوعي اللهم البحث عن الفرقعات الإعلامية. والمؤسف أننا نسمع بعض هؤلاء يقولون بأنهم جاؤوا لمحاربة التطرف "بمختلف أشكاله"، لكنهم يمثلون واحدا من هذه الأشكال التي تجب محاربتها. هناك اتفاق على أن المثقف في المغرب أخلى الساحة منذ زمن بعيد، لأسباب متداخلة لا يتسع لها المجال. ولكن لأن هناك اتفاقا حول هذه الخلاصة فإن ما يترتب عليها أن السياسيين هم الذين يملأون الفراغ اليوم، وكلمة "الفاعل المدني" في المغرب اليوم لا تعني بالضرورة أنه ليس من السياسيين، بل قد يكون التعبير المكثف عن رجل الحزب، وأسوأ وضع يعيشه المجتمع المدني في بلادنا هو أن نفس الأسماء تغير موقعها من مكان إلى آخر وتنتقل من قضية إلى أخرى بكل حرية ودون نقد ذاتي، ولذلك من حق الكثيرين أن تساورهم الشكوك وأن يطرحوا الأسئلة حول التقاطعات الموجودة بين بعض تلك المبادرات وبين الأهداف السياسية. الصراع السياسي أمر مشروع، بل إن السياسة ما وضعت إلا لأنها تحتمل الخصومة، لكن الخصومة السياسية لديها أدواتها المباشرة التي يعرفها الجميع. ومن حق ممارسي السياسة أن يعبروا عن غضبهم من الحكومة الحالية لأن حزبا إسلاميا يقودها يستعمل مفردات دينية في صراعه السياسي مع خصومه. لكن يجب التأكيد على أن استعمال تلك المفردات ليس ناتجا بالضرورة عن خيار سياسي واع بقدر ما هو تعبير عن الثقافة بمعناها السوسيولوجي الذين أشرت إليه أعلاه. من الصعب أن تدفع شخصا تربى داخل الجلسات التربوية منذ نعومة أظفاره على مفردات معينة إلى التخلص منها سريعا، فقد كان يفهم العالم من خلالها، وهو اليوم يفهم من خلالها العمل السياسي. وكما أن تكوين تلك المفردات وصعودها إلى اللاوعي الفردي تطلب زمنا طويلا فإن الأمر يتطلب أيضا زمنا آخر للتخلص منها، مع التمرس في العمل السياسي، فالإشكالية هي ثقافية بدرجة أولى قبل أن تكون سياسية، لا تزال تعتبر أن الخصم السياسي خصم ديني بالضرورة، وهي فكرة وإن كانت غير معبر عنها علنا إلا أنها كامنة في هذه الثقافة. إن الوعي بالاختلاف أمر مهم لاستمرارية التعايش، لكن الدعوة إلى الاختلاف لدينا تنطلق دائما من جانب واحد، من جانب الطرف الذي يريد أن يعترف به الآخر، لكنه لا يطرح على نفسه هو قضية اعترافه بالآخر. هذا ما نراه لدى الكثيرين من اليساريين والعلمانيين المغاربة الذين يشتكون من أن الطرف الآخر أي الإسلامي لا يعترف بهم، لكن السؤال هو: إلى أي حد يعترفون هم بالآخر؟. قبل قرابة خمس سنوات كتبت مقالا عن "اليسار والدين بالمغرب"، على هامش أرضية وضعها باحثون وسياسيون يساريون حول علاقة اليسار بالدين وضرورة تجديد الرؤية لمحاربة التطرف. وقد تساءلت في ذلك المقال عما إن كانت لدى التيار اليساري بالمغرب الجرأة فعلا على إعادة النظر عمليا في تلك العلاقة. وها قد مضت خمس سنوات وظهر أن تلك الأرضية كانت مجرد ورقة مكتوبة بالحبر انتهت بمجرد نشرها. فليس المهم أن تكون لديك مبادرات، لكن المهم أن تكون لديك القدرة والجرأة على تنزيلها. في عام 1995 نشر العلامة اللبناني محمد حسين فضل الله في مجلة "الناقد" التي كانت تصدر بلندن عن دار الساقي مقالا لا يزال راهنيا:"شرقي الهوى إسلامي الهوية"، هاجم فيه الإسلاميين والاشتراكيين والعلمانيين والقوميين لأنهم جميعا أبناء الثقافة الشرقية الواحدة التي تمجد الاستبداد ولا تعترف بالخصم وتؤمن بالإقصاء. فقد كان يرى رحمه الله أن المشكلة ثقافية لدى الجميع على قدم المساواة، وأنه ليس من الممكن أن يكون أي مكون من هذه المكونات طرفا وخصما في وقت واحد. إن محاربة التطرف تتطلب القدرة على النقد الذاتي، والتعالي على الخلافات الجانبية للبحث عما مشترك بين الجميع وما يعطي للمواطنة مدلولها العملي، كما أن محاربة التطرف لا تعني خلق الأحقاد داخل المجتمع مهما كانت المبررات والدوافع السياسية، ومهما كان الطرف الذي يعيد إنتاجها. إن هناك تطرفا إسلاميا وتطرفا علمانيا، وهذه الحقيقة إذا لم يتم استيعابها لن نبدأ الخطوة الأولى في اتجاه محاربة التطرف، وكما أن المغرب يحتاج إلى جميع أبنائه، فإن هؤلاء أيضا يجب أن يحصل لديهم الوعي بأهمية الانتماء إليه. يحتاج التطرف إلى رؤية علمية موضوعية تعمل على فهمه من أجل التعامل معه على أسس منهجية تمتد في الزمن وفي المكان، وإلى أصوات المثقفين والمفكرين ذوي القدرة على الوقوف في الوسط بين الجميع، لكنه لا يحتاج إلى ردود أفعال مستعجلة ذات أفق سياسي ينتهي به. وما نراه اليوم من مبادرات جلها محكوم بالسقف السياسي، وهذا يشكل خطرا على المغرب لأنه يخضع ظاهرة على قدر كبير من الخطورة، هي ظاهرة التطرف الديني، للتوظيف السياسي الذي يساهم في إذكائها. إن الذين لا يستطيعون أن يمدوا أيديهم إلى الآخرين لا يمكن أن يكونوا جنودا ضد التطرف، ولا يمكن إلا أن يكونوا في صفه.