في كل حراك جماهيري يتوخى العدالة الاجتماعية، والمساواة، وإعمال الحقوق الإنسانية، سواء أكان محدودا في العدد والكيف والمكان والزمان، أو كان ممدودا موسعا كاسحا مثل حراك الحسيمة، يحدث ما يمكن تسميته ب الانزلاقات والغوغائية، وتحريف النضال المشروع عن وجهته وأهدافه، فيصبح " سياسيا "، و" انفصاليا "، في ما يرى ويقدر الطرف المستهدف الذي هو الدولة. قد يكون وسط الحشود الهادرة المظلومة، أقلية مدسوسة تأتمر بأوامر ما، مطالبة ب " المستحيل "، ودافعة بالحراك إلى ما لا تحمد عقباه في الآجل أو العاجل. والدليل على ذلك عدم رفع العلم الوطني في انتفاضة شعبية ريفية عمرت سبعة أشهر، إذ أن العلم الوطني كما يعرف الجميع هو رمز للسيادة الوطنية، و" الاستقلال " الذي مهره شعب مغربي عظيم بدمائه الزكية التي سقت شجرة الحرية فأينعت، وأثمرت غلال الاستقلال والكرامة والحرية التي اختطفت من لدن شرذمة منذ منطلق ما سمي ب" الجهاد الأكبر"، أي بناء الدولة، وإرساء المؤسسات، وتفعيل القوانين، وتكريم الإنسان المغربي، وتلك قصة أخرى في كل حال، ولعل عقابيلها هو مانعيش بعضه الآن، وأخاف غدا. ذلك أنه من حق الدولة وجمهرة واسعة من الشعب المغربي، أن تضع يدها على قلبها وهي موزعة بين الدعاء للحسيمة بالنصر أي بتحقيق ماسطرته وما تتوخاه من كرامة وشغل وعمل، واهتمام في الحال والمآل، وحرية وعدالة اجتماعية، وبين السخط المضمرأوالمعلن على طيف الانفصال الذي تراءى للبعض في غياب العلم الوطني، وفي لافتات محدودة ترفع شعارات لا علاقة لها بجوهر وعمق الحراك الريفي المطلوب والمشروع. ومع ذلك، نقول: إن الريف وباقي الأرياف المغربية، والقرى، والبلدات المنتشرة والمبعثرة في الربوع والأطراف، تعاني الويلات، تعاني التهميش، والكذب الصراح، ولا يصلها من الثروة الوطنية إلا النزر اليسير، وقد لا يصل البتة. وليس من شك في أن الهوة الطبقية الشاسعة الواسعة التي نعاينها صباح مساء، في الغدو والرواح، أججت مشاعر الآلام والغضب، وقوت الإحساس العارم بالظلم الاجتماعي، والانسحاق الطبقي، ما جعل الكيل يطفح، والكأس تفيض، والغضب يهدر، والعاصفة تنذر بالشر المستطير. إن الحراك الشعبي الاجتماعي ينضج على نار هادئة لا تسمع في الغالب، ولا ترى لأن شرارها لا يظهر متقدا منذرا بالحريق المهول إلا بعد أن تأكل النارُ النارَ، فتصبح الدنيا جحيما وسعيرا. وإن ذلك لسبب منطقي ناتج عن الإهمال الممنهج، وإغماض العين وفتحها حسب ترمومتر السياق والظرف والزمان والمكان، ولغياب الديمقراطية في الأول والأخير، وتقهقر الأحزاب السياسية جملة وتفصيلا. فالأحزاب الوطنية التي كانت بالأمس، لسانا جريئا صادعا يقول ما ينبغي قوله للنظام من دون خوف ولا وجل، الأحزاب الديمقراطية التي دفعت الثمن، وضريبة الكفاح الوطني والديمقراطي، والتي جهرت بالحق من أجل الجماهير والقوات الشعبية، انتكست، وتخلت عن دورها، وبلعت لسانها، وصارت مجرد دكاكين انتخابية تتحين الفرص والزمان لتفوز بنصيبها من الكعكة محمولة عل أصوات الجماهير التي تتنكر لها في أقرب منعطف. ولا فرق بين أحزاب محافظة تتكيء على الدين، وأحزاب ديمقراطية تدعي الاشتراكية، والنضال الديمقراطي الحداثي. والحكومات المنبثقة من الصناديق السحرية العجيبة، تمضغ الأيام تلو الأيام، وتقضي سنواتها السمان بالتبطئة والتسويف، واللغة الخاوية، والخطابات والزعيق السياسي، بينما تمر على الجماهير الواسعة الكادحة المظلومة المغبونة، سنوات خمس عجاف، تمني النفس فيها بالأمل، وبما يمكن أن يحدث لها من تنمية وتطوير يطول وضعها المادي والمالي والمعنوي من حيث العيش الكريم، والحق الواجب في التعليم والشغل والتطبيب، والحريات الفردية والجماعية. إذن، هناك عطب كبير، وخلل جسيم يعتري الجسم الوطني المغربي. وما خروج ساكنة الحسيمة، وباقي القرى والبلدات المجاورة والمتاخمة والبعيدة التي تصادت لهذا الحراك، إلا برهان ساطع على عمق المظالم والآلام، والأحزان التي يستشعرها الملايين بل يعانونها وهم مبعدون، متروكون للأيام، والتمنيات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والتنمية الكاذبة المزعومة التي لم يروا منها إلا الفتات، وبقايا الطعام على مأدبة اللئام. لا يجدي، الآن، التخويف والتعنيف، والزج بمسيري الانتفاضة حتى لا أقول زعماءها، في السجن، لأن ذلك لن يزيد الأمر إلا استفحالا، ولن يزيد الغضب إلا عرامة ونارا حمراء، والكراهية حقدا أسود لا يطاق. فلقد قال " الربيع " العربي المغتال، كلمته في 2011، وهي الكلمة التي قطعت مع زمن الخوف والقفقفة أمام المخزن، بل أمام الرصاص. ومن ثَمَّ، وجب الإنصات إلى المطالب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المشروعة لساكنة الحسيمة، ولعموم المهمشين، والمتضورين جوعا وعطشا في أنحاء مختلفة من البلاد.. ما يعني وجوب ترجمة الميزانية والاعتمادات الوطنية في مناحيها ووجوهها الجهوية، إلى معطيات ملموسة، وحقائق دامغة تنموية يراها السكان، ويستفيد منها الشباب العاطل والضعفاء، والقرى والمداشر والدواوير المنسية، والساكنة المغربية بإجمال. وما يعني من جهة أخرى، أن الطرف المتضرر المغبون والمظلوم، وهو هنا: الحسيمة والأطراف، ينبغي أن يحسن الإنصات والحوار مع ما يسميه ب " المخزن "، أي الحكومة " الائتلافية " التي ينتظرها الكل من أجل إحقاق الحق وصولا إلى وضع مصداقيتها على المحك، لكن بعد أن يمهلها وتمهل نفسها ضمن أجندة زمنية ممولة محددة ومحكمة، وضمن قطاعات معروفة ومتعينة. حتى إذا أخل الطرف المنفذ بوعوده، آنذاك يأخذ الحساب مجراه، بعد أن يعرف الرأي العام من نكث بوعده وعهده، ومن كان وطنيا حقا يحب لهذا الوطن، السلم والأمن والاستقرار، والعيش تحت راية واحدة مرفرفة بما هي رمز السيادة والجهاد والحرية والاستقلال.