بعد غياب طويل، أدّيتُ مؤخّراً صلاة المغرب في مسجد السنة النبويّة بمونتريال. أثار إعجابي جمال صوت الإمام الجديد فتأخَّر سرحاني قليلاً. بعد الفاتحة رتّل الشيخ المصري قوله تعالى: "والتّين والزيتون وطور سينين..."، مدَّ الياء الأولى ربّما أكثر من اللّازم ممّا استفز انتباهي؛ ذلك أنني طيلة أكثر من خمس وثلاثين سنة وأنا أقرأ الكلمة، إن قرأتها "سنين"، أي أعوام... وطفقتُ أحدِّثُ نفسي، وأنا أصلي يا حسرة، لا يمكن لمُقرئ مُجيد مثل هذا الإمام أن يخطئ، لربما هناك قراءتان، ولكن ما معنى "سينين"؟ وتناسلت الأسئلة والملاحظات وما شئتَ من خواطر تصيِّرني أفّاكاً إن ادعيْتُ أنّي أذكر ماذا قرأ الإمام في الركعة الثانية. طبعاً تثبتُ بعد ذلك بأن الله عز وجل أقسم ب "طور سينين"، وليس "طور أعوام". بعيداً عن الغرور، أعتبر نفسي من المدمنين على القراءة والمطالعة منذ الطفولة، مئات وربما آلاف الساعات قضيتها مع المجلات والكتب والجرائد. أُصبتُ مبكراً بجرثومة حب السياسة، خاصة الدولية، فكنت أهتم بدانييل أرتيغا ومانويل نورييغا وجوناس سافيمبي وعبد رب الرسول سياف وجيري آدمس وغيرهم... وفي مشواري الأكاديمي قضيت الليالي مع الأونوروا ولوكيربي والووغور في الصين والانفصاليين في آتشه بأندونيسيا والمقاطعة العربية لإسرائيل ومع محكمة الجنايات الدولية... لأجدني في الأخير أخطئ في واحدة من أصغر السُّور. ذات يوم كنت أتحدث في الجامعة مع بنت أحد الدبلوماسيين العرب، كانت متحاملةً جداً على الفلسطينيين وتُحمِّلهم مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم. سألتها عن دورنا نحن تجاههم وتجاه الأمة، أجابتني وهي تضرب سبّابتها على صدغها "إِحنا بِنفكّرْ"، نطقت حرف الرّاء بطريقة جميلة تذكرك بعمرو خالد أو حسن نصر الله. أسابيع بعد ذلك، وأثناء مناقشة أحد بحوثها، صدمتني الأخت كما سيصدمنا الداعية عمرو والدَّعيُّ نصر الله. فبِنت الدبلوماسي، والتي صارت دبلوماسية هي أيضاً، لا تضبط الحركات السياسية الموجودة في بلادها، كما أن البحث برمته كان جد سطحي... قلت في نفسي لا جرم أنها تفكر لكن في أمور أخرى... ربما كلنا نفكر، أو كما نطقتها صديقتنا "نُفكِّغ"، لكن ليس دائماً فيما ينفعنا... لا أحب أن أضع عمامة وأسترسل في الوعظ، فذاك فنٌّ بيْني وبينَه البيد، لكن ماذا لو صارحني ابني يوما بأن الوضوء الذي علّمته إياّه ليس صحيحاً... هل أعترف له بالصواب أم أُكابر وأجابهه بترسانة من الحيثيات والخلفيات والملابسات... خواطر هي، قد تبدو متهافتة، رِجعية أو في غير محلها، بيْد أنها تظل زفرة حسرة حين تكتشف مقدار جهلك.