"إنّ هذا الحيوان البشري مركّب على أن لا يكون فاضلا عفيفا إلاّ بعيب فيه" أناتول فرانس يروم هذا القول التنبيه إلى خطورة نموذج الخسّة في الاجتماع المدني المنشد للتغيير الايجابي والانعتاق من رِبْقَةِ التخلّف. أما مبنى القول فيه، فيقوم على فرضية أنّ سلوك الخسّة قرين وجود نمط حياة المتعة الفجّة. وللتدليل على هذا الفرض، نعتبر تضايف النزوع المُتَعِي وإنتاج نمط سلوك الخسّة والبؤس عاملا حاسما في انتشار انحلال القيم التقليدية، وغلبة التوجهات الاستهلاكية المتطرّفة، بالإضافة إلى الميوعة بمختلف تجلياتها: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية. لكن، كيف تعمل مفارقة الخسَّة والبؤْس على تكريس كلّ هذا الانحلال المزري؟ الواقع أنّ سلوك الخِسَّة مجرَّد نتاج لتراكم تربوي ثقافي واجتماعي سلبي، أفضى تأثيره على الأفراد إلى بروز بعض الظواهر المرضية سواء على مستوى السلوكات العملية، أو على مستوى التمثّلات والأفكار والخيالات، وذلك نتيجة لأسباب تحول دون تنشئة سليمة لشخصية الأفراد في المجتمع. نفس الشيء ينطبق على نموذج البؤس، حيث حياة المهانة والسلبية ديدنه في اجتماع مدينته؛ وذلك في نفس الاتجاه المتساوق مع نموذج الخسّة الذي يستثمر حالات ضعف البائس، فينشط ويتكاثر سلوكه ويتعاظم. البيّن، إذاً، أنّ مفارقة الخسّة والبؤس تعمل، وفقا لهذه العلاقة، على جعل الأفراد مجرّد أدوات لإنتاج تخلّف اجتماعي ونفسي وتربوي مُزْري. يظهر ذلك من خلال إنتاج قيم مشوّهة، وأفعال نمطية رديئة عمادها الحقد والخوف والتملّق، ثمّ الوضاعة والمكر وحبّ الشر للآخر والتلذّذ بعذاباته. يشكّل انتشار هذا الواقع حالة انحراف «Déviance» خطيرة في واقع معيّن، حيث يؤثّر انحلال الخُلق والقيم وفساد الفكر نتائج حتمية لسيادة جدلية الخِسَّة والبؤس. ولأجل توسيع الفهم بالكيفية التي تشتغل بها مفارقة البؤس والخسّة في الاجتماع المدني غير الفاضل حسب مفهوم الفارابي للمجتمع الجاهل؛ حرّي بنا أن نعرف بداية دلالة كلّ من الخسّة والبؤس، ثم بعد ذلك كيف تتسبّب جدليتهما في الانحراف والانحلال. فما الخسّة؟ وما البؤس؟ وما شكل العلاقة بينهما؟ بالعودة إلى الدلالات اللسانية للفظتي: الخسّة والبؤس، واستقراء مدلولاتها اللغوية في اللسان العربي، نجد لفظة الخِسَّة من الخَساسَة، وهي لغة من مصدرُ الرجل الخَسِيس (Odieux)، أي البَيِّنة خَساسَته. لذلك، عندما نقول: الشخص الخَسِيسُ، قصدنا بذلك الرجل الدنيء؛ ومنه فعل خَسَّ الشيءُ، يَخَسُّه، ويَخِسُّ، خِسَّةً، وخَساسَةً، ومعناه خسِيسٌ ورَذُل، أي من كانت أفعاله رذيلة. أمّا وقولنا شيء خَسِيسٌ، وخُساسٌ ومَخْسُوسٌ، فمعناه: تافه. إذاً، الرجل المَخْسُوسٌ مَرْذُول بطبعه الخسِّيس، حيث تردُّه خَساسَته حالة أخلاقية سيِّئة من جهة كون أفعاله كلّها وضيعة ورذيلة. إنّه الكائن المخادع الذي يعمل على جعل سلوكه خداعا وكذبا ومراوغة، بأن لا يكون صادقا ولا صريحا. الرجل من هذه الطينة إنسان مذموم منحرف «Déviant» عن جادّة الصواب، يرتكب أفعالا رذيلة من جملة كونه: يخفي الحقيقة، يمارس الظلم والإجحاف، والاستغلال، والعدوان، والاغتصاب، والاحتيال، والتنقُّص، واللؤم، والدناءة، والغيبة، والكراهية، والحقد، والحسد، والنميمة، والشتائم، والسرقة، والسطو، والكذب، والبهتان، والخداع، والغدر، والافتراء، والخيانة، والمؤامرات، والمكر، والتسويف، والتزوير، والتلفيق، والتجاهل، والإيذاء، والامتهان، وحجب الحقائق ... إلخ تظهر خطورة نموذج الخِسّة في طبيعة الانحراف الذي يسبّبه للمجتمع، وذلك عن طريق تشويه قيمه الفاضلة. من جهة أخرى، تتعاظم خطورة أفعال الاجتماع الخسّيس بإحلال قيم الرداءة والرذيلة محلّ قيم الصلاح والفضيلة. وعندما يضاف إلى هذا النموذج السيئ نمط اجتماع سيء آخر، هو البؤس؛ فإنّ فالنتائج الأخلاقية كارثية على أهل هذا الاجتماع غير الفاضل. لذلك، يخلق تضافر الخسّة والبؤس بيئة اجتماعية قاسية، سمتها العداوة لكلّ ما يتصل بالفضيلة والرقي الاجتماعي، في مقابل نزوع شديد إلى تكريس الانحطاط والرداءة في كلّ شيء. يشكّل وجود نموذج البائس (Le misérable) في اجتماع أهل الخسّة المريض نموذجا لذلك العضو المدني الذي يعيش وضعية يُرثى لها، نظرا لفاقته وعوزه الذي تسبّب فيه تدبير الخِسِّيس المُسْتَحْكِم في المجتمع. فالبائس من أهل هذا الاجتماع غير الفاضل عضو اجتماعي غير مشمول بالحظّ، ولا هو مصانة الكرامة؛ وإنّما لا وزن له ولا مكانة اجتماعية تحفظ له كرامته بين مجموعة من الأعضاء الذي يغلب طبعهم اللهث وراء المتع واللذات الحسية، كما كان يقول الفارابي في حديثه عن صفات آهل المدن الجاهلة. البيّن أنّ نمط حياة البؤس استتباع لنمط حياة الخسّة في الاجتماع المدني الجاهل؛ وذلك ظاهر من حيث كون المدني البائس في هذا المجتمع، فرد مُنتهك الكرامة يعيش المهانة والاحتقار. يستغل الخسّيس بؤس البائس مبديا تعاطفا زائفا منه، ادّعاء الإحساس بالرحمة والشفقة الكاذبين؛ بيد أنّه في الأصل، هو السبّب في بؤس هذا البائس نتيجة تدبيره الخسّيس لشؤونه وخداعه لغيره من البسطاء، وسرقة حقّهم من الثروة والمنافع المشتركة بالمكر والمخادعة والمخاتلة. يفسد الخسّيس المجتمع غاية الفساد، ويتسبّب بداخله في انتشار البؤس والفقر الكثير باستئثاره بالمنافع والمتع وكثرة المقتنيات دون حسيب ولا رقيب. تنتشر في هذا الاجتماع، الفاسد بسبب ذلك، كثرة العاهات الاجتماعية والأخلاقية والنفسية، فيظهر في أهله الاسترزاق والاستجداء، وتنهار منظومتهم الاجتماعية، وتختلط المعايير على أعضائهم بين من يستحق ومن لا يستحق، ثمّ يكثر فيهم البؤساء من الفقراء، والمشرّدون، والمجانين، واللقطاء... إلخ. ينجم عن هذا الوضع سيادة ثقافة الانتهازية والتواكل، وتتولى عملية هدم مختلف مقوّمات ثقافتهم الأصلية، فيختلط في اجتماع أهل الخسّة الإحساس بالغبن مع الرغبة في الانتقام. ويكتشف الناس مدى استغلال معاناتهم، وتنتشر مختلف أساليب النشل والتسوّل واللصوصية، بموازاة مع الرغبة في المخادعة وطلب المتعة من كلّ نوع. هكذا، تعمل مفارقة الخسّة والبؤس على تشويه القيم النبيلة للاجتماع المدني والتلاعب بها، حيث يحدث أن يكثر استغلال النوايا الطيّبة، واستثمارها فيما يخدم منافع الخِسِّيسين. يكمن السبب وراء هذا الواقع المزري في كون الخسّيسين من أهل هذا الاجتماع يدبّرون تدبيرا خسّيسا لأجل تحقيق مصالحهم الضيقة، دون الاهتمام بمصالح غيرهم ممّن لم يمكّنهم تدبيرهم من تحقيق وحفظ مصالحهم. بيد أنّ مناورات هؤلاء لا تقوم على اعتبارات عقلانية متّفق عليها، وإنّما فقط على ما درجنا على تسميته "تاحريميات"؛ حيث يُفرض على بؤساء الناس وسذّج المجتمع أن يصدقوا الكذب على أنّه صدق، والخطأ على أنّه صواب. وفضحا لهذا النموذج الخسّيس في التدبير، قدّم الفيلسوف أبو نصر الفارابي وصفا بليغا في حقّ تدبير أهل الخسّة لاجتماعهم الجاهلي، بأن وصفه بذلك الاجتماع "الذي يتعاون أعضاؤه على التمتّع باللذة من المأكول والمشروب والمنكوح، واختيار الألذّ طلبا للذّة والمحسوس والتخيّل وإيثار الهزل واللعب بكلّ وجه ومن كلّ نحو" (الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة). الحاصل من هذا القول أنّ أهل اجتماع الخسّة لا يستثمرون ملكاتهم العقلية والفكرية في تحصيل ما يتوافق مع الفضيلة العقلية الحقيقية والأخلاقية الحقّة، وإنّما فقط يلهثون وراء ما يتماشى وأهوائهم وشهواتهم ولذاتهم الحسّية. لذلك، يفضي اجتماع هؤلاء إلى جعل أعضائه كائنات مدنية مخادعة، مراوغة ومكابرة. أمّا البؤساء منهم، فينزلون فيحتقرونهم وينزلونهم منزلة أقل، فيستحقون في اعتقاد خسّيسيهم كلّ الاحتقار والاستبعاد والتهميش؛ إذ، لا حاجة لأكابرهم بهؤلاء، إلاّ إذا كانوا لهم قطيعا طيّعا، كالعبيد والأتباع الرعاع. تلك هي المفارقة الغريبة لثنائية الخسّة والبؤس في مجتمع المتعة.