الحجر الفلسفي حين عرفت بالحجر الفلسفي أول مرة في حياتي، جعلته دون تردد أساسًا لصرح أحلامي، بعد أن حصلت عليه بنفس الطريقة التي حصلت بها قبله على الطاقية والمصباح والخاتم. ولمّا كان عليّ أن أجرّبه بأحسن طريقة ممكنة، فقد وضعته على جبل زلاغ، أكبرِ جبل في العالم بالنسبة لسطح بيتنا القديم، تمامًا كما هو المغرب، أجمل بلد في العالم، من سمائه. وإن هي إلّا لحظات حتى كنت أتسنّم جبلًا من ذهبٍ هو الذهب، وأرنو باحتقار دفين إلى أولئك الأغنياء الذين كانوا لا يستطيعون كبح ثرائهم عند محلّات الجزارة ومخافر الشرطة. ولست أذكر الآن ما إذا كان صنيعي قد انطلى أيضًا على سفح الجبل، حيث وادي المالح، فأردى ماءه لُجينًا أجاجًا. سوى أن حلمي ما لبث أن تحول إلى كابوس فاقع، ذلك أن تينَ الجبل وزيتونه، أطياره وأحجاره، أعشاشه وأعشابه، وغيرها من أسباب الخضرة والحياة اختفت جميعًا لصالح بريق صلدٍ وبلا مسام. هكذا أيقنت أن التراب هو أنفس المعادن، فركنت الحجر ذاك في غرفة المهملات، تمامًا كما فعلت من قبل مع طاقية الإخفاء حين أفسدت ظهوري الأنيق، وقد سهوت عن خلعها في الوقت المناسب. من حسن حظي أني تخلّصت من تلك الأشياء العجيبة في وقت باكر من حياتي، وبالضبط حين أدركتني تلك الحرفة التي أوقفت عليها خيالي كاملًا. ولأن العالم أكبر مني بكثير، فقد بلغ سن الرشد قبلي بقرون، فتخلّص من تلك المعجزات الخيالية في إحدى الزوايا المظلمة من تاريخه، وأنشأ معامل لصنع العجب العجاب والمستحيل الذي يجُبّ ما قبله، فصارت الحياة ترفل في بحبوحة من الرفاه والرغد لم تخطر على بال قمقم. فحتى مارد المصباح نفسه، لو قيض له أن ينبعث بيننا الآن، لبدا كنادل مضحك وهو يحضر صينية الدجاج تلكَ بلا شوكة ولا سكين ولا مناديل ورقية... الخيميائيون الجدد جعلوا روح الحجر ذاك تحُلّ في كثير غيره. فنجحوا، بذلك، في تحويل كل شيء إلى ذهب، من القمامة حتى الدم. طاقية الإخفاء صارت رقمية، وأصبح بإمكانها أن تحجب الهويّات والقنوات والطائرات حتى. الخاتم لم يعد يُجمع على خواتم، وإنما على أختامٍ قد يعود الواحد منها بسبأ ونواحيها وليس ببلقيس فقط. أما القمقم فقد تعددت أشكاله وأحجامه، ولم يعد ينفث دخّانًا كما في الأحاجي، وإنما يتجشّأ بخارًا غازيًّا هو سرّ نجاحه في جني أموال طائلة، جعلت منه الراعي الرسمي لكبريات التظاهرات، كما جعلت مَرَدَةَ الرياضة والفن والموضة يروّجون له صاغرين. فساد الغذاء لا أقصد بهذا العنوان البضائع منتهية الصلاحية التي قد تودي بآكلها إلى المستعجلات أو إلى المقابر، ولا التوابل المغشوشة التي تتحجّر في الكلى، ولا مقانق الكلاب التي تجعل مدمنها يرفع رِجلًا كلما همَّ بإفراغ متانته، ولا غيرها من الأوساخ الأخلاقية المتراكمة في هذا الباب... وإنّما أقصد ما أحدثه بعضهم من إفساد للثمر قبل الجني والأنعام قبل الذبح والنشء قبل النضج، وهو عندي شرّ يبدو أمامه إفساد الملح قابلًا للصفح. ففي أخبار منشورة أن ضيعة لإنتاج البطيخ عمد صاحبها إلى سقيها بمياه الصرف الصحي، لا لندرة المياه في المنطقة، وإنما لانعدام ماء وجهه، فإذا هي، كجلد شاسع موبوء، طافحةٌ بالبثور والدمامل من أحجام غير مألوفة. ولولا احتواء الموضوع في الوقت المناسب، لكان صديد تلك الدمامل قد فعل فعله في العباد. وفي أخرى، لا يرقى إليها الشك، أن نفس العباد حجّوا، وقد حل ذو الحجة، إلى أسواق البلاد، وفي نفس كل واحد منهم شيء من الأملح الأقرن لاستكمال الدِّين ولو بالدَّين... إلّا أن فرحة الناس بالعيد لم تكتمل، ففي أكثر من بيت أسفرت الذبيحة عن جيفة، فلا الرائحة رائحة أضحية ولا اللون لونها، ولو كانت تجوز بالحال التي هي عليها لجاز قبلها الخنزير والضبع وما عاف السبع. ولعلها المرة الأولى، منذ افتدى سيدنا إبراهيم ابنه، التي تُشاهد فيها الأضاحي مرمية جنب رفثها في القمامة على قارعة الطريق. ولأن الأمر جلل، إذ أين البطيخ من الضأن، كان لابد لجهة ما أن تنبري لتبريره. هكذا خرج علينا مكتب السّلامة يا مولانا التابع لوزارة الأمطار، فأفحم البلاد والعباد بأن الأمر يعود إلى ارتفاع الحرارة وسوء الذبح وبئس المصير. ومع أن الإسلام ظهر في شبه الجزيرة حيث الحرارة لا تنخفض والذبح مهنة قائمة الذات، ومع أن عيد الأضحى صادف فصل الصيف مئات المرات قبل ظهور الثلاجة والمجمد ومكيف الهواء، ومع أن الإسلام منتشر في مشارق الأرض ومغاربها ويعتنقه أكثر من مليار نسمة، ومع أن ما حدث حدث حصريًّا في المغرب، ولو كان حدث في غيره لتناهت إلينا رائحته كما تناهت رائحتنا إلى العالم. ومع كل هذا وغيره، فقد آثرنا السّلامة وصدّقنا مكتبها يا مولانا، ولم نَنْسَقْ مع رواية المغرضين التي تعزو ما حدث إلى الحقن والعلف وحبوب التسمين وما إلى ذلك من أراجيف. وكم تمنّينا لو أن وزارة الهلال الأبيض خرجت علينا هي الأخرى، فأفتتنا في أمر ديننا، فعرفنا منها مدى جواز الأملح الأقرن إذا أنتن، وهل يحِلُّ قربانًا ما فسد "قضبانًا"... سوى أنها لم تفعل، وحسنًا فعلت. وقبل هذه وتلك، قرأنا عن تلك العصابة التي كانت تعترض النساء في الصباح الباكر، قبل أن يذهب أفرادها، على متن سيارة خفيفة، إلى الدراسة في إحدى أعرق مدارس المهندسين. مثلما علمنا أن طالبات في الأقسام التحضيرية، تركن غرفهنّ في الداخلية تعج بالتعاويذ والطلاسم، قبل أن يلتحقن بمختلف المعاهد العليا. طلبة مهندسون يستعينون على قضاء حوائجهم بالنشل، وطالبات علوم لامعات يستعنّ على التفوق بالدجل. فمن أي قناة صرف صحي تمّ سقي أرواح هؤلاء، وأيُّ علف فاسد تناولت عقولهم؟ وإذا كان هذا هو حال الكرزة، فلنا أن نتخيل فوق أي كعكة هي. لقد أفسدنا النبات والحيوان والإنسان. ومع ذلك، ما زلنا نتساءل ببلاهة أمام مرايا أنفسنا : من أين جاء هذا المسخ؟ التلقيح ضد الكبت قبل نصف قرن كان نصف المواليد يموتون بأمراض لم يعد لها الآن ذكر. فكانت المرأة تلد دزينة فتربي دستة فقط، بعد أن يكون الجذري وبوحمرون والتيفوس قد اقتسموا الباقي. فالأمراض، لا غيرها، ما كان يقوم بتنظيم الأسرة، ولولاها لكان عدد المغاربة أضعاف ما هو عليه اليوم. ولعلّ من ألطاف الله الظاهرة أن تزامن ظهور التلقيح ضد هذه الأمراض مع انتشار وسائل منع الحمل. الطبعة المزيدة والملقحة من المغاربة، والتي تشكل أكثرية واضحة، لم تنج من تلك الأمراض إلّا لتكتسب أخرى أخطر بكثير. لا أقصد السرطان والسيدا وما في حكمهما، فهذه تقتل من تصيبه في أسوء الأحوال، وإنما أقصد تلك التي تصيب المرء فتفتك بكثير غيره. وإذا جاز لنا أن نضع كل تلك الأمراض، على كثرتها، تحت مسمّى واحد، فلن نجد أبلغ من الكبت. فالجشع والتسلط والسطو والانتهازية والتنطع والتدليس والنرجسية والادعاء... إنما هي أسماء للكبت المالي والروحي والاجتماعي والديني وغيرها من أقرباء الكبت الجنسي وخلّانه. فهي جميعًا وراء الاغتصاب المستشري في البلاد، اغتصابِ الجسد والروح، الأرض والعرض، الحق والعرق، الحرية والوقت، المال وماء الوجه... وما هذه التشوهات الخلقية والأخلاقية التي يحملها المجتمع سوى بعض من نتائجه الظاهرة. لقد بات عاديًّا الحديث عن تفخيذ الرضيعة وحرث العجوز واغتصاب المختلة والمعاقة وما عاف الحمارْ. وأصبح مألوفًا اختلاس المليارِ والسطو على العقارِ من الشقة حتى الألف هكتارْ. وأضحى الغش والبطش والتكديس والتدليس من علامات الوقارْ. وأمسى موضةً أكل حقوق الناس بالشوكة والسكين واحتساء عرقهم مع الكافيارْ. بل إن بعض مفلسي الضمير لم يعودوا يرون في البلد، هذه البلد، سوى صالة للقمارْ. لهذا الغيض فقط، سيكون مفيدًا من التحليل النفسي أن يدع جانبًا عقدة أوديب، ويتفرّغ لهذه الكومة من العقد التي انتهى إليها غير قليل من بني جلدتنا. وكم سيكون جميلًا منه أن يبتدئ بعقدة قارون وعقدة هارون وعقدة شمشون... أما الطب الحديث، فنتمنى عليه أن يدير قليلا ظهره للسيدا والسرطان وغيرهما من الأمراض البسيطة، ويركّز جهوده على اختراع لقاح ضدّ هذه الأنواع الفتّاكة من الكبت. الإحاشة والطّابليت في بعض مناطق المغرب، لا يعاني التلاميذ فقط من الفقر والعطش ووعورة الطرق، وغير ذلك مما يواجهونه بعزائمهم الفتية المستمدة من أحلامهم بمستقبل كالمستقبل، وإنما يعانون أيضًا من الخنزير البري الذي يعترض سبلهم فيرعبهم أو يصيب بعضهم إصابات قاتلة، فينقطع غير قليل منهم عن الدراسة لهذا السبب المخجل بالذات. لم أكن لأعرف بهذا الأمر لولا أني صادفت ذات مساء ربورتاجًا في التلفزيون حول الإحاشة : حشود من البشر بالبنادق والعصي، تخرج الخنازير من آجامها وتطلق عليها النار، فيما يواكب ذلك تقرير عن أسباب النزول. وكم تمنيت لو أن مسؤولينا ينظمون إحاشة مستمرة في المنعطفات والحافلات وعند أبواب المدارس... للحد من خطورة الخنازير المقنّعة التي تتلف المحاصيل الدراسية قبل تحصيلها. في نفس الفترة تقريبًا جرى الحديث عن تعميم الطابليت في المدارس (اقرأوا جيّدًا : الطابليت وليس الطواليت)، فوزيرنا في التعليم ساعتها كان، كما كان من قبل، متحمّسًا لتكنولوجيا المعلوميات تحمّسًا أعمى جعله لا يرى الواقع المغربي الذي لا يرتفع. وهو الأمر الذي يذكّر على الفور بملك الحبشة الذي كان مولعًا بالتحديث لدرجة استيراد الكراسي الكهربائية حتى قبل تزويد البلاد بالكهرباء، مثلما يذكّر بنصيحة ماري أنطوانيت لفقراء الثورة الفرنسية بتناول الكعك إذا لم يجدوا خبزًا. وعلى ذكر الخبز، فقد حكى لي صديق أن تلميذًا في إحدى الداخليات كان لا يخبّئ كِسرة الخبز لجوعه القادم إلّا بعد أن يضعها على الحائط ويحفها بالقلم، حتى يتأكد حين العودة إليها، وقد طابقها مع رسمتها، من أن زميله لم يقضم منها. وحتى لا أقلب المواجع أكثر، أكتفي بهذا الفقر. الإحاشة والطابليت وجهان ليس للتعليم فقط، وإنما للصحة والإدارة وباقي مناحي الحياة، حتى ليبدو المغرب برمّته كعملة يجري تعويمها، قبل تعليمها السباحة، فيغرق تارة نحو الإحاشة، وتارة يطفو على سطح الطابليت، أمام خوفنا عليه، نحن الذين لا نملك غيره، ممن يتربصون بقارب نجاته بعد أن أمّنوا لأنفسهم ولنسلهم يابسة أخرى. *شاعر مغربي مهتم بالشأن المعرفي