في حلقة أخرى من مسلسل الإجهاز على مكتسبات الأمازيغية، وفي خطوة يمكن اعتبارها الأعنف والأخطر من نوعها، قررت القناة الثامنة، بحر هذا الأسبوع، بداية العمل بالبث المتزامن، وتمكين المشاهد من الاختيار بين المتغيرات الثلاثة للغة الأمازيغية، إلى جانب اللسان "العربي" الدارج، بواسطة آلة التحكم عن بعد. قرار يجعلنا نتساءل عن سياقه وخلفياته، وكذا خطورته وعواقبه، ثم كيفية التعامل معه. بداية، لا يمكن فهم هذا القرار إلا من خلال كونه تنزيلا فعليا وعمليا لتوجه جديد تبنّته الدولة المغربية في التعاطي مع اللغة الأمازيغية، يقتضي التناول الشعوبي لهذه القضية، وزرع الفوضى الخلاقة بشكل عمدي، سعيا الى تقويض مجهودات التوحيد والمعيرة، اللذين يفترض أن تشجعهما الدولة وتمكنهما من كل الإمكانيات البشرية والمادية، ثم من خلال محاولات التملص الماكر من تعهدات والتزامات قطعتها الدولة على نفسها في سياق سياسي معيّن. لو قمنا بإطلالة قصيرة على تناول الدولة للأمازيغية، خصوصا منذ فجر عهد "المصالحة"، لوجدنا أن الحديث عن الأمازيغية كان يتم بصيغة المفرد، والتوجه هذا لم يكن عبثيا أو عفويا بالنظر إلى خلق مركز للتهيئة اللغوية بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الذي راكم تجربة تربو عن خمس عشرة سنة من توحيد اللغة الأمازيغية، من خلال تحليل نظم التركيب والصرف، وكذا اختلافات النطق وسيروراتها، وقطع أشواطا مهمة في توحيد اللغة وتقعيدها، وهو التوجه الذي يزكيه الشكل الذي تم به إدراج هذه اللغة في المنظومة التعليمية، حيث تأسست العملية على أربعة مبادئ، من بينها التوحيد والمعيرة. لقد نحت السياسة الرسمية -في بدايتها- منحى توحيد اللغة الأمازيغية ومعيرتها، سواء في التعليم أو الإعلام، مع الأخذ بعين الاعتبار مبدأي التدرج والسلم الاجتماعي، كل ذلك من أجل الانفتاح والتلاقح بين المتغيرات وإغناء الرصيد المعجمي بغية تحقيق العودة إلى العمق المشترك، وتمكين كل الناطقين من التواصل دون المساس بالخصوصيات، رغم عوائق التاريخ وحواجز الجغرافيا. يأتي هذا القرار النكوصي الجديد في سياق مسلسل التراجع والتملص والتلكؤ والمماطلة الذي أعقب التعديل الدستوري، فأصبحنا اليوم نسمع ب"أمازيغيات" أو "تعبيرات لسانية" في القوانين ومشاريع القوانين، في الوقت الذي تم تجاهل القانون التنظيمي، الذي ضم مشروعه مفهوم التعبيرات اللسانية والأمازيغية بصيغة الجمع، كحق يراد به باطل من جانب جيوب المقاومة، التي لا تدخر جهدا في طعن الأمازيغية بشتى الطرق، المباشرة وغير المباشرة، ومن كل الجوانب. سنعود إلى قرار القناة الثامنة لنقول إنه في الوقت الذي كان المشاهد المغربي ينتظر زيادة ساعات البث، والعمل على تجويد المادة الإعلامية، والانتقال من الترجمة المخلة والدبلجة المملة لأعمال متقادمة إلى إنتاج إعلامي موسوم بالتميز، أطل علينا السيد مدير القناة المذكورة ليطلي الوجه القبيح للقناة بمزيد من المساحيق المنتهية صلاحيتها، وهي إطلالة تسطيحية واستغبائية تحتقر ذكاء المتتبع، وتنمّ عن تخبّط في السياسات الكبرى للدولة وعجزها عن الحسم، وتغييب فلسفة إعلامية مواطنة ووطنية تنتصر للإنصاف ومبدأ تكافؤ الفرص، وإفلاس بيّن في التدبير الإعلامي المسؤول، والإعمال الزائد للمقاربات السياسوية في التعاطي مع الأمازيغية. إن قرارا من هذا القبيل يسعى، وسيؤدي حتما، إلى تكريس، بل إذكاء التشرذم اللغوي لأن الأمر يتعلق باللغة الأمازيغية التي يتحامل عليها الكثيرون، ولن يكون له أي وقع إيجابي على الإعلام الأمازيغي غير تفتيت الأمازيغية لقطع الطريق عليها أمام كل وظيفة مؤسساتية، ثم مراكمة أرباح شركات الترجمة والدبلجة، التي تسمى باطلا شركات الإنتاج، وإلا كيف لم تحذُ باقي قنوات القطب العمومي حذو قناة "تامازيغت"، وتوفر البث المتزامن باللهجات "المدينية" و"الجبلية" و"العروبية" و"الحسانية" و"البدوية" عطفا على متغيرات اللغات الأمازيغية، ليس فقط "تاشلحيت" و"تامازيغت" و"تاريفيت"، بل "تسامّريت" و"تفكيكيت"!! والحال هذه، يتعين على النسيج الجمعوي الأمازيغي التحرك للرد بقوة على هذه المساعي، وعلى الديمقراطيين من نشطاء الأحزاب تحمل مسؤولياتهم، والوقوف أمام هذه التحركات المشبوهة. إن المؤلم في القرار أن يسخّر الناطقون الرسميون ب"أمازيغية المؤسسات" للتطبيل لمثل هذه التوجهات، التي تعتبر مجزرة حقيقية في حق مأسسة الأمازيغية وتقعيدها وشرعنة إجرائية للهجنة المؤسساتية، تبديدا لحلم المغاربة بالعدالة والمأسسة اللغويتين. وختاما، نقول إنه إذا كان ضروريا الحديث عن "أمازيغيات" بصيغة الجمع، فيجب أن يسارع أصحاب هذا الطرح إلى المطالبة بتعديل دستوري يرسّم هذه "الأمازيغيات" المزعومة حتى تحاط بحماية قانونية تكون جوابا للمتحفظين من مثل هذه القرارات. *باحث في اللسانيات والأدب الأمازيغيين